بقلم وعدسة: زياد جيوسي"البوح العاشر"
ما أن أنهينا المرور من أطراف حارة الحبلة حتى كنا نزور صبانة النمر برفقة د. لينا شخشير منسقة برنامج جولتي في نابلس والسيدة د. مها النمرمضيفتنا في جولتنا في مصبنة النمر وقصر آغا النمر وحارة الحبلة، ومرافق رحلتي الأستاذ سامح سمحة الذي رافقني من جيوس في أكثر من جولة في الوطن بسيارته الخاصة، وما أن أطللنا على صبانة النمر حتى وقفت أتأمل المبنى العريق من الخارج، وأستذكر صابونة النمر في طفولتي والتي كانت الوالدة تفضلها مع صابونة الجمل للاستحمام قبل أن نعرف الكهرباء وكنا أطفالا نستحم بما كنا نسميه (لجن) الغسيل على مقعد خشبي صغير كنا نسميه (المفرمة أو اللوح) والمياه تسخن في صفيحة على (بابور الكاز)، فكان الاستحمام عقوبة أسبوعية لنا الأطفال وخاصة حين يتسلل الصابون لأعيننا.
مبنى مصبنة النمر مكون من طابقين من الحجر الصلب، وهو يعتبر حديث نسبيا كما حارة الحبلة نسبة لحارات ومباني نابلس التراثية التي تعود لمئات الأعوام، ولهذا نلاحظ أن المصبنة تقع في زاوية حارة الحبلة، وحين دخلناها كانت المصبنة تحت الصيانة في الطابق الثاني الذي يتم فيه سكب الصابون بعد طبخه على الأرض ليجف ويقطع ويختم بخاتم المصبنة، وفي الطابق الأول الذي ما زال يحافظ على ذاكرة التاريخ شاهدنا الجرن الكبير الذي كانت تشعل النار تحته في غرفة سفلية تعرف باسم بيت النار حيث يتم طبخ الزيت مع نبتة (القلي) حتى يصبح صابونا لزجا فيتم فرشه في الطابق الثاني حتى يجمد ويتم تقطيعه وتغليفه.
الطابق الأول مبني على نظام العقود المتصالبة ذات القواعد الضخمة كما مباني نابلس التراثية، وهو بُنيَ كي يكون صبّانة لآل النمر وما زالت وقفا لهم، فالصبّانات بشكل عام كانت صفة اجتماعية للعائلات الثرية إضافة إلى أن الصابون النابلس هو صناعة تعود لقرون عدة وحسب المصادر التاريخية بين 800 إلى 1000 عام، وقد تحدث شمس الدين محمد بن أبي طالب الأنصاري "المقدسي" الذي عاش في القرن العاشر الميلادي عن صناعة الصابون النابلسي، ولكن لا بد من الإشارة أن نابلس كانت تشتهر بالنسيج من ضمن 3 مدن فلسطينية، وأن الصابون تألق كثيراً بصناعته بعد أن أَفَلتْ صناعة النسيج، ولكن هذه الصناعة بدأت بالتراجع بعد زلزال 1927 والضرائب التي فرضت عليها فيما بعد حتى قل عدد الصبانات العاملة والمنتجة من أكثر من 30 صبانة إلى 3 مصابن حسبما علمت أثناء جولاتي في نابلس، وكما كل الصبانات التي زرتها سواء العاملة أو التي توقفت عن الإنتاج فقد شاهدت الأوعية الضخمة التي كان يصنع الصابون فيها فوق بيت النار الذي كانت تشعل النيران فيه، إضافة للأدوات التي كانت تستخدم في عملية الإنتاج إضافة لبئر الزيت الذي كان يحتفظ فيه بزيت الزيتون النقي لكي يصنع الصابون الأبيض الذي تميزت به نابلس.
حين بدأنا المرور في دروب وأزقة حارة الحبلة تذكرت همسات شعرية للصديق الشاعر مختار العالم يقول فيها لنابلس حين أتاها زيارة للأهل وذاكرة المكان يقول فيها: "تركت غنائي ملّ اللحن يسألني/ أين التي عزفت والشوق يعزفني، كانت تقشقش عش الحب تملأه/ تحنو عليّ كفرخ الطير تطعمني، هذا الفراغ يحيط القلب في حزنٍ/ والصدر منشغلٌ والروح تشغلني، أنّى ألتفتُ فذا وجهٌ لفاتنتي/ أنّى شربتُ فماء البعد يشربني، عودي "جميلتي" الحسناء وانبعثي/ لحنًا يموسق أشواقًا فيطربني.." فرأيت في حارة الحبلة وجه الجميلة الحسناء ينبعث من جديد، فحارة الحبلة وكما أشرت في مقالي السابق يعود اسمها حسب مقولتين: الأولى أنه نسبة لنظام بناء شوارعها، والمقولة الثانية لكونها كانت محاطة بالحقول والبساتين المزروعة وأنا أرجح ذلك فنحن في فلسطين وخاصة في الريف اعتدنا أن نسمي الأرض المزروعة بالبساتين بكلمة (الحبلة)، وهناك من ينسب الاسم لقبائل أتت من منطقة الحبلة بالحجاز، وهذه الحارة التي كانت مجال دراسات مهمة وشهادات ماجستير للعديد من طلبة العلم المهتمين بالتراث والتاريخ، واحدة من أحدث وأوسع حارة من حيث المساحة بالنسبة لغيرها من حارات نابلس فهي تشكل تقريبا 21% من مساحة نابلس التراثية، ولكن في نفس الوقت لها تاريخ قديم ومبانيها التراثية القائمة تعود للفترة العثمانية.
وحارة الحبلة لها عشرة مداخل وعانت من الاحتلال كثيرا لقربها من الشارع الرئيس، فكان أطفال الحجارة يقذفون سيارات الاحتلال والجيش بالحجارة ويختفون في أزقة ودروب الحارة فلا يتمكن منهم الاحتلال، فيصب اضطهاده وقمعه على الحارة بأكملها، وشهدت الحارة عدد كبير من أبطال المقاومة والشهداء حتى أن الحارة تعرضت لتجريف مساحات منها في اجتياح 2002م، وحارة الحبلة لها تاريخ وتراث وهي تتميز باحتوائها على العناصر التراثية المتميزة من حيث الممرات والمساحات ونشأتها كمحيط لقصر يوسف آغا النمر ووجود المصبنة والأقواس والقناطر والمقامات الدينية والحكايات المرتبطة بهذه المقامات وكراماتها كما هو موروث بالحس الشعبي إضافة لحارات فرعية مثل حارة الفقوس وحارات أخرى تشكل بمجموعها حارة الحبلة، وأثناء مرورنا كانت مضيفتنا د. مها النمر تشير لبيوتات سكنتها شخصيات مهمة من آل النمر ومنها بيت المؤرخ والباحثاحسان النمر.
ومن الجدير ذكره أن معظم الأبنية التي بقيت في نابلس هي أبنية تعود للفترة المملوكية والفترة العثمانية، فمعظم المباني تهدمت أو تضررت في زلزال 1927 وفيضان 1935، وحارة الحبلة كونها أحدث حارات نابلس التراثية بنيت أصلا في الفترة العثمانية ولهذا نجد الكثير من النقوش الإسلامية ومنها ما شاهدته في الدخلة المسقوفة الواقعة مقابل الواجهة الشرقية لقصر النمر، ونشأت الحارة حين بدأ البناء فيها في محيط قصر يوسف آغا، ولكن يوجد بعض المباني لفترات سابقة مثل بقايا المبنى الصليبي (الموريستان) وبعض الأبنية المملوكية إضافة لوجود آثار وحجارة مستخدمة تعود للفترة الرومانية، وحارة الحبلة كما أشرت كونها على حافة المدينة القديمة والمطلة على الشارع الرئيس في نابلس، تواجه العديد من المشكلات ففي شارع الساقية الذي يعتبر واجهة حارة الحبلة شاهدت عدد كبير من المحلات العشوائية والمبنية من الصفيح وتستخدم كورش حدادة وغيرها من الحرف الصناعية، فشوهت واجهة الحارة وخلقت تشويها بصريا وسمعيا لكل من يمر من هناك، بينما المفترض أن تكون هذه الواجهة مرتبة ومنسقة بشكل يناسب أهمية وتاريخ وتراث حارة الحبلة، وكي تكون نقطة جذب للزوار والسياحة.
كنا نسير من زقاق إلى زقاق ومن مدخل إلى مدخل ومضيفتنا د. مها النمر لا تتوقف عن الشرح عن تاريخ هذه البيوتات والأبنية التراثية التي نشاهدها، حتى وصلنا إلى الساحة الرئيسية أمام قصر يوسف آغا النمر، وهذه الساحة واسعة تحيط أطرافها البيوتات التراثية وقد جرت عملية ترميم لها أعادت لها بعض من جمالها وتاريخها، ومن الجدير الإشارة إليه أنه في كل نابلس القديمة لا يوجد إلا ساحتين كبيرتين، أمام جامع النصر وأمام قصر النمر، وعلى ما يبدو أنها كانت تستخدم للاجتماعات العامة مع شخصيات نابلس وفي المناسبات الدينية والاجتماعية.
وصلنا البوابة الرئيسة لقصر الآغا النمر وهي مرتفعة حوالي أربعة أمتار كي تسمح للخيالة الدخول بخيلهم إلى ساحة القصر، وهذا القصر الذي يقع شمال شرق البلدة القديمة هو نواة حارة الحبلة ويعتبر أحد أهم القصور التي بُنيت في بلاد الشّام وفي مدينة نابلس خلال مرحلة العثمانيين، وهذا القصر سيكون مدار الحديث في الحلقة القادمة من جولاتي في تراث مدينة نابلس وذاكرتها.
أجلس إلى شرفتي العَمّانية بعد الإفطار وبعد أن أديت صلاة التروايح في المسجد القريب، مع نسمات هواء ناعمة وحلوة بعد حرارة النهار التي نعاني منها منذ عدة أيام، أحتسي القهوة مع صوت فيروز وهي تشدو: "يا راعي القصب، يا راعي القصب مبحوح، جاي عا بالي شروقي، قللو للقصب ما يبوح، بالسر اللي في عروقي، وإن ضعنا سوا بها الليل، خلي صوتك مسموعِ"، فأستعيد ذكرى جولاتي في الوطن وخارجه وفي نابلس فأهمس: فليكن صباحكَ أجمل يا وطني.
"عمَّان 26/5/2019"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق