الجمعة، 1 ديسمبر 2017

الاستشراق والتاريخ الكوني بقلم : أ.د. محمد الدعمي





”اعتصر الباحث الناقد “إرك مير “Meyer جدل إدوارد سعيد، إذ لاحظ تطابق منهج الاستشراق التاريخي مع التركيب النحوي للجملة الإنجليزية، إذ يقول هذا الكاتب: “إذا ما اعتبرناه جملة فوق ـ نصّية، فإن البناء الأيديولوجي للسرد التاريخي الذي يضطلع به الاستشراق الرومانسي يمكن اختزاله على غرار كتاب هيجل المعنون بــ(فلسفة التاريخ)، حيث يهزم الغرب، فاعلا، الشرق، مفعولا به، في المعركة العالمية للهيمنة التاريخية”.”
لا ريب أن أهمية ماضي الإقليم العربي بالنسبة لأوروبا لا تنبع من كونه أرض الديانات السماوية الثلاث Bible Land فحسب، بل تنبع كذلك من أنه الماضي الشرقي الوحيد الذي عايشته أوروبا وتصادمت، ثم تعاملت معه حتى نهايات القرن الثامن عشر الميلادي، حيث ارتفعت كفة ميزان القوى لصالح أوروبا. هذا الشرق، بالنسبة لأوروبا، هو الشرق الكلاسيكي المنافس .
اعتصر الباحث الناقد “إرك مير “Meyer جدل إدوارد سعيد، إذ لاحظ تطابق منهج الاستشراق التاريخي مع التركيب النحوي للجملة الإنجليزية، إذ يقول هذا الكاتب: “إذا ما اعتبرناه جملة فوق ـ نصّية، فإن البناء الأيديولوجي للسرد التاريخي الذي يضطلع به الاستشراق الرومانسي يمكن اختزاله على غرار كتاب هيجل المعنون بــ(فلسفة التاريخ)، حيث يهزم الغرب، فاعلا، الشرق، مفعولا به، في المعركة العالمية للهيمنة التاريخية”. وبحسب هذا المنطق، فإن تسجيل تاريخ الشرق من قبل الاستشراق إنما يتولد من رغبة امبراطورية استحواذية، رغبة ترنو إلى وضع الشرق وماضيه بين مطرقة الإرادة الغربية وسندان مخططاتها المستقبلية، على طريق إنتاج “تاريخ جديد للعالم”، وهو سرد تاريخي يجسد إرادة القوة الغربية بوصفها “ضرورة تاريخية” بضمن “نظام عالمي جديد” له تبرير متجذر في التاريخ . وتعبر حركة تسجيل التاريخ في الفكر الاستشراقي عن هذا الدافع الاستحواذي الأناني، برغم تلونه وتشكله ضمن تنوعات أخرى من الدوافع المبطنة والإرهاصات الشائكة، اجتماعية واقتصادية وفردية، إذ تتصل الأخيرة بشخص المستشرق ذاته. ولكن المستشرقين، يدا بيد مع مجايليهم من الأدباء والمرتحلين والشعراء الرومانسيين، لا يمكن أن يفلتوا من وطأة الوعي بفوقية امبراطورية وإرادة أخاذة للهيمنة على “الآخر”، بغض النظر عن طبيعة دوافعهم الفردية. وهي إرادة ترنو إلى الاستحواذ على تاريخ العالم من خلال، كما يعلن مير: “تشكيل سرد تاريخي يؤول إلى تبيان تفوّق الحداثة الأوروبية على الشرق اللامنطقي، باعتبار أن الحداثة الأوروبية تمثل النظام الثقافي السائد، ويبقى النزوع الصادق إلى التحرير ـ تحرير الآخر، الشرقي ـ العربي، والذي يميز “الهيلينية الرومانتيكية” حبيسا في خدمة بلوغ الهيمنة على الشرق، بوصفه امتدادا واقعيا لا مفر من القبول به”.
لم يستثن ميّر الشعراء والكتّاب الرومانسيين من الرضوخ لهذا الوعي الوسواسي بـ(الهيمنة الامبريالية) باعتبارها أمرا واقعا وشديد الإغراء يصعب الإفلات منه. وعلّة ذلك، مرة ثانية، هي وقوع العقل الغربي أسيرا في دائرة ذهنية شمولية نتجت عن استجابات فكرية عتيقة موروثة، وهي جزء من “روح العصر”. وهي ذهنية تنظر إلى الشرق نظرة دونية مستضعفة. ولكن يلاحظ المرء أن التحامل على الماضي العربي الإسلامي خاصة كان أكثر شيوعا وأشد وقعا، مقارنة بأساليب التعامل مع تواريخ الشعوب الشرقية الأخرى؛ إذ عبّرت الكتابات الاستشراقية عن خوف مؤرق من الإسلام ومن العرب بخاصة. هذا خوف مترسب من ماضٍ سحيق، يجد تعبيراته في تراكمات نفسية ـ جماعية معقدة، تراكمات عدائية وشديدة الحساسية تصل حد “الرهاب” من الاسلام وطاقاته العقائدية والعسكرية اللامحدودة، وهي عواطف عدائية مضادة لهذا الدين ولجنده العرب الذين شكلوا تحديا هدد أوروبا إقليميا وروحيا، خاصة بعد عصر الفتوحات الإسلامية، إذ اقتطعت الفتوحات المبكرة ثلث ما كان يسمى بـ”العالم المسيحي “Christendom.
تواصل الخوف من الإسلام ومن رديفه (أي العرب) خلال العصر الوسيط، وبقي ضاغطا حتى عصر الاستعمار الأوروبي الحديث (مرورا بالحروب الصليبية، بطبيعة الحال) أي بعدما وعت أوروبا أنها أقوى من آسيا وإفريقيا ماديا وعسكريا (برغم صغر مساحتها)، وهو نوع من أنواع انتشاء القوة النابع من الشعور المتواصل بأنها أقوى من أقرب جيرانها. ولا ريب في أن العداء الغربي للعرب وللإسلام، واعيا أو غير واعٍ، إنما هو شكل من أشكال الثأر النفسي، كما عبرت عن ذلك كتابات أذكى العقول في أوروبا، وهذه خلاصة يمكن اعتمادها، ليس لدفع تواريخ المستشرقين جانبا، بل لتوظيفها على سبيل إدراك أدق وأعمق لمكنونات العقل الغربي وآليات تعامله المتغطرسة مع حضارتنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق