السبت، 23 ديسمبر 2017

متناقضات الوجود الإنساني بقلم أ.د. محمد الدعمي


إن الأطرف من هذا هو تزامن لقاء الأثرياء في دافوس مع تلك الصور المخجلة للحضارة البشرية اليوم، صور سكان عدة أقاليم عبر العالم التي تناقلتها وكالات الأنباء والفضائيات وقتذاك دون رتوش لتظهر أمامنا آلاف الأطفال والشيوخ والنساء وقد أتى عليهم الجفاف والقحط، حارقا مزروعاتهم وحشائش أرضهم، درجة عدم قدرة الإنسان الوقوف على قدميه بسبب الجوع..
على الرغم من أن جميع حكومات العالم وأنظمتها السياسية وتياراتها الآيديولوجية تزعم أنها الوحيدة أو الأقدر على حفظ العدالة وتكافؤ الفرص، وصيانة المستقبل وإنقاذ الفقراء، بيد أن النتيجة النهائية دائما ما تكون متجسدة في مثل هذه الصور والحالات المؤلمة لحضارة بشرية، نفعية مادية، تتعامى عن معاناة الإنسان وتغض النظر عما يخترق العالم من ظلم وقهر وقسر، الأمر الذي يبرر تفجر حالات الفيوضات السكانية، حيث تتقيأ قارات ودول ومجتمعات وأقاليم مختلفة في العالم شيئا من زخمها السكاني من جمهور الفقراء والكادحين الذين يحلمون بعبور البحار والخلجان للانتقال إلى أوروبا أو إلى أميركا. هؤلاء الفقراء والمساكين يشكلون البثور المتقرحة التي تطفو على بشرة حضارتنا الآدمية في هذه الحقبة لتؤشر الاختلالات والتداعيات المعتملة في دواخلها، تلك التداعيات التي حاولت أذكى العقول في العالم رصدها واستمكان أسبابها منذ يقظة الثورة الصناعية في القرن التاسع عشر.
لا أنشد في جزيرة غير مأهولة في هذا السياق، وإنما أحاول أن أستجمع خطوط وألوان صورة مهشمة على أمل رؤية الذات، ذات حضارتنا البشرية اليوم. إنه لمن الطريف أن يتابع العالم بإمعان ولهفة مجتمعات الأغنياء وأصحاب النفوذ والمال الذين انتقوا قبل بضع سنوات، من بين جميع مدن العالم، منتجعا سويسريا للالتقاء وللحوار حول أحوال العالم الاقتصادية: فكان منتدى دافوس الاقتصادي، إذ تعالت أبراج المال العاجية والقصور والفنادق الفاخرة والسيارات الفارهة ليناقش المجتمعون الذين ينتمون إلى قومية واحدة، بغض النظر عن انحداراتهم الإثنية، وهي “قومية الأغنياء”، القومية التي تقف نقيضا لـــ”قومية الفقراء” أينما كانوا، بغض النظر عن الجنس واللون، الدين والجنسية.
إن الأطرف من هذا هو تزامن لقاء الأثرياء في دافوس مع تلك الصور المخجلة للحضارة البشرية اليوم، صور سكان عدة أقاليم عبر العالم التي تناقلتها وكالات الأنباء والفضائيات وقتذاك دون رتوش لتظهر أمامنا آلاف الأطفال والشيوخ والنساء وقد أتى عليهم الجفاف والقحط، حارقا مزروعاتهم وحشائش أرضهم، درجة عدم قدرة الإنسان الوقوف على قدميه بسبب الجوع، بل درجة عدم قدرة الحيوان البقاء على قوائمه لنفس السبب.
هي صورة مأساوية مربكة بحق، ولكنها لم تفلح في تحريك عواطف الأغنياء عبر بقاع العالم المختلفة، برغم تحذيرات الأمم المتحدة ومنظماتها المتخصصة من احتمالات مأساة إنسانية ينفق بها الإنسان كالحيوان من المجاعة والعوز. بيد أن هذه الصورة تكون صارخة بحق إذا ما وضعناها إلى جانب الأخبار الرئيسة التي تناقلتها الفضائيات الأميركية، أي أخبار موافقة السلطات الصحية الأميركية على بيع الصيدليات لنوع جديد من الحبوب التي تساعد على التخسيس ومعالجة البدانة، بلا وصفة طبية من طبيب معتمد! تقول المذيعات الجميلات اللائي قدمن هذا الخبر كأول خبر في النشرة الرئيسية، إن واحدا من أهم أسباب إطلاق هذا الدواء وتيسيره للمشترين هو وجود سبعين مليونا من الأميركان يعانون من البدانة المفرطة. لذا تتبلور هنا إختلالات حضارتنا المادية النفعية التي تتعايش فيها حالات التخمة مع حالات الجوع حد الموت على نحو جماعي دون أن تتحرك الضمائر أو أن تستثير الإحتجاج الإجتماعي والدولي. ليس هذا بغريب على حضارة متعامية بالمال وبغرائز الاستحواذ وحرمان الآخرين، حضارة يكون فيها ناقلوا صورة القحط من العاملين في الأمم المتحدة الذين هم أنفسهم من المتخمين الذين يعيبهم إختيار المطاعم والفنادق لتناول وجبات الغداء أو العشاء! لذا يكون من غير المعقول ولا المقبول منطقيا أن يتجاوز تعاطف هؤلاء، والأغنياء عامة، مع فقراء إفريقيا وأميركا اللاتينية وجنوب شرق آسيا تعاطفهم مع كلابهم أو قططهم المنزلية حين تجوع. لاحظ أنه قد تم ابتكار مطاعم وفنادق خاصة بالكلاب والقطط المنزلية في الولايات المتحدة الأميركية مؤخرا.
يواجه المجتمع الأميركي خطرا حقيقيا، وليس ثانويا بقدر تعلق الأمر بالسمنة، ذلك أنه أخذ يشعر، حتى على المستوى الإداري الحكومي، بآثار هذه الآفة، آفة الأغنياء، عبر الترهل وضعف الأداء والميل إلى الكسل والسعي إلى الكسب السريع من أجل المزيد من التخمة التي تؤول إلى خزن المزيد من الشحوم على المستووين الفردي والمجتمعي. والدليل يتجسد حتى في القلق الهاجسي الذي تنقله لنا وسائل الإعلام الأميركية نفسها، حيث تتصاعد الحملة الإعلامية ضد البدانة والترهل عبر العديد من المقابلات والتقارير الطبية، زيادة على تجسد المشكلة في عدد لا بأس به من أكثر البرامج التلفازية الأميركية والعالمية، شيوعا وشعبية، حيث تقدم السيدات اللائي نجحن في التخسيس وفقدان الوزن كـ”بطلات” يستحقن التصفيق والهدايا. ناهيك عن البرنامج الشعبي البارز المعنون “أكبر فاقدي الوزن” الذي يعد برنامجا تعليميا يدرب المشاهدين الجالسين أمام الشاشة وهم يتناولون رقائق البطاطا مع الجعة، كيف يمكن أن يفقدوا هؤلاء أرطالا كافية من الشحوم في زمن قياسي. وتنطبق ذات الحال على برامج عديدة أخرى، من نوع “البداية من جديد” و”البجعة” حيث تختلط التمارين القاسية للتخلص من السمنة مع الجراحات التجميلية من أجل شفط الدهون من آن لآخر، وهي الدهون التي ربما يتمنى بعض فقراء إفريقيا أن تكسو عظامهم.
يا له من عالم يزخر بالمتناقضات، وهي في أغلبها تنبعث من ذلك البون الذي يصعب تجسيره بين الأغنياء والفقراء، بين “الأمتين”، كما أسماها الروائي البريطاني الفذ، بنجامين دزرائيلي (رئيس وزراء بريطانيا على عهد الملكة فكتوريا)، أمة الأغنياء وأمة الفقراء.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق