الثلاثاء، 14 فبراير 2017

براعم زها يحلّقون في فضاءات الفن التشكيلي


بقلم وعدسة: زياد جيوسي
   أثناء زيارة لي للعاصمة الأردنية عمَّان، فوجئت بدعوة تصلني من مؤسسة زها للطفولة في ضاحية خلدا في العاصمة الأردنية، وهي مؤسسة من بعض مؤسسات أمانة عمَان الكبرى، لحضور فعاليات خاصة بالأطفال، فتذكرت هذه الحديقة الجميلة التي تقع على مسافة قريبة جداً من مقر إقامتي بالأردن أثناء سفري من الوطن ومن مدينة رام الله. وحين دققت برنامج الفعاليات التي ستقام تحت شعار: (يوم حب التطوع)، وجدت من ضمنها عرضاً لمجموعة من الفنانين التشكيليين الشباب، وقررت الحضور وتلبية الدعوة، فاصطحبت حفيدتي الطفلة الحلوة "سيدرا" ذات الخمس سنوات من العمر معي وقلمي وعدستي.
  تجولت مع حفيدتي كل الفعاليات في يوم حب التطوع، وكنت أرقب ردود الفعل عند الأطفال، وحجم مشاركتهم، وحجم اندماج حفيدتي بهذه الفعاليات، والتي تراوحت بين الموسيقى والدبكة التراثية والمحاضرات الإرشادية والتوعوية للأطفال وبخاصة فيما يتعلق بالجانب الصحي، إضافة إلى الحكواتي، والمحاضر الصغير، وتوجيه الأطفال لحب التطوع بالأعمال والنشاطات الاجتماعية والفنية والثقافية، وإعادة تدوير المواد لتصبح إما أعمالاً فنية أو مفيدة للاستخدام، اضافة للرسم على الوجوه والفن التشكيلي، فوجدت تفاعلاً كبيراً من الأطفال بأعمارهم المختلفة، واهتمام بالحضور من الأهالي مع أطفالهم، وحضور متميز للإدارة والعاملين والعاملات بالمركز، إضافة إلى أعداد من الشباب والشابات المتطوعين.
   كان اهتمامي بشكل خاص متجهاً لفعاليات الفن التشكيلي بحكم اهتمامي فيه، ومقالاتي عنه، ومتابعتي ما أمكن للمعارض، إضافة إلى برنامج أسبوعي في راديو بيسان في رام الله عن الفن التشكيلي، فأردت رؤية كيفية تفاعل الأطفال مع الفن التشكيلي ومدى تأثيره على أرواحهم الغضة، فكنت وما زلت مؤمناً أن الفن والموسيقى من أهم الوسائل لتشذيب الأرواح، ودفعها للتحليق في فضاءات الجمال، وبخاصة أنني ألاحظ أن مادة الفن في المدارس هي الأقل اهتماماً، بعكس ما كانت تجده من اهتمام كبير من بعض مدرّسينا في طفولتنا، بحيث تركت أثرها على أرواحنا.
   شارك الفنانون الشباب: أحمد المناصرة، وشيرين بلوط ،وريمان المحو، ونوال عبد الرحيم، وأسماء صبيح، ببعض من نتاج أرواحهم، حريصين أن تكون اللوحات المعروضة قريبة من فهم الأطفال، فشارك الفنان الشاب أحمد المناصرة بخمس لوحات تعتمد على استخدام قطع الزجاج المعشق والملون على طريقة استخدام الفسيفساء (فسيفساء التراكم)، وفي ثلاث منها كانت صور لثلاث شخصيات مشهورة هي محمود درويش وجيفارا وأم كلثوم، بينما لجأ في لوحتين لرسم حكايات تناسب الأطفال بالزجاج الملون المعشق الفسيفسائي. وأعتقد أنه من الضروري أن يتجه الفنان نحو إبداع لوحات من روحه يطعّمها بالزجاج الملون إضافة إلى الصور التي يستخدمها، فهو من الفنانين القلائل الذين اتجهوا للإبداع الفني من خلال الزجاج الملون على شكل لوحات الفسيفساء، وله مشاركة كبيرة، وإشراف على جدارية في مدينة الزرقاء الأردنية بالطريقة الفنية نفسها، وكان هناك تفاعل جيد من الأطفال مع أعماله، فربما المادة الزجاجية المستخدمة بجماليتها وانعكاساتها لعبت دوراً كبيراً في استثارة نفوس الأطفال، وتوجيههم بشكل غير مباشر نحو استغلال الخامات المتروكة وإعادة تدويرها بشكل مفيد، وهذا ما لمسته من تساؤلات الأطفال التي وجهوها للفنان، واهتمامه بالحديث معهم بروح محبة ومرحة. الفنان مناصرة خريج جامعة فيلادلفيا تصميم جرافيك، ويستعد الآن لمناقشة رسالة الماجستير بفنون العمارة الإسلامية.
     بينما اتجهت الفنانة الشابة شريهان بلوط إلى تقديم ست لوحات متميزة بمواضيعها وفكرتها وجمالها، لوحات كانت بمواضيعها وأسلوبها الفني قريبة جداً من الأطفال، منها مشهد لطفلة في لحظة محبة مع فرس أصيلة في أحضان الطبيعة، ولوحة أخرى انطباعية للورود والأزهار، وفي لوحتها الثالثة كانت تقدم مشهداً لبيت تراثي تحيطه الورود والنباتات وبجوار البوابة شجرة عارية من كل الأوراق، وهذا يمثل تناقضاً بين الربيع الطاغي على اللوحة ومشهد الشجرة وكأنها في قلب الخريف، بينما في لوحة أخرى رسمت الصوفيين بردائهم المشهور وهم يرقصون بالشكل الدائري، وفي لوحة أخرى رسمت الطفل بائع البلالين للأطفال، وختمت لوحاتها بلوحة لطفل في أول الشباب يرتدي العمامة، وهذه اللوحة بالأصل صورة فوتغرافية أسقطت عليها الفنانة روحها حين شدتها النظرة القاسية والقوية في العينين، وهي لوحة داكنة الألوان، وبتقديري أنها أخذت جهداً كبيرا من الفنانة كي تولد النور من قلب العتمة، ويلاحظ أن طبيعة الموضوعات في لوحات الفنانة شيرين بلوط قريبة جداً من أرواح الأطفال، وتوجههم نحو الجمال في الحياة والاستمتاع بها، ما بين الطبيعة والخيول والورود والربيع والجمال، والاستعداد لمواجهة قسوة الحياة. الفنانة لم تدرس الفنون إلا دورة بمعهد تابع لوزارة الثقافة الأردنية، وهي تمتلك موهبة جيدة تمارسها منذ الطفولة.
   الفنانة ريمان المحو، وهي خريجة جامعة اليرموك، وشاركت بثلاث لوحات انطباعية ومتميزة، فقد رسمت غابات من الأشجار بكرم لوني كبير، وتشكيل انطباعي متميز، فاستخدمت أسلوب الكشط بالسكين بطريقة متميزة، ومازجت الألوان بطريقة تدل على قدرات تقنية متميزة بالتعامل مع اللون واستخداماته، فمازجت البرتقالي مع الأحمر بتدرجاته، إضافة إلى الأزرق والأصفر والأخضر والأبيض واللون البني لجذوع الأشجار، بحيث كانت لوحاتها ملفتة للنظر، وشدت الأطفال للجمال الذي يشاهدونه، وبالتأكيد تركت أثراً جميلاً في الأرواح الغضة ليعشقوا الجمال والطبيعة ويحافظوا عليها.
  الفنانة التشكيلية نوال عبد الرحيم، قدمت تسعة أعمال، كل ثلاثة منها تشكل فكرة متكاملة. والفنانة نوال لم تدرس الفن، ولكنها امتلكت الموهبة، واعتمدت على نفسها ومشاهداتها بتطوير موهبتها الفنية، إضافة على نصائح وإرشادات من فنانين لهم وجود قوي في الساحة الفنية في الأردن. ويتميز أسلوب الفنانة باللجوء لأسلوب الزخرفة في إبداعاتها الفنية، وسبق لي أن شاهدت لها العديد من الأعمال في معارض مشتركة. وفي معرض زها نلاحظ أنها في المجموعة الأولى قدمت المكان بطريقة جميلة، وقريبة إلى النفس، سواء للكبار أو الصغار، فقدمت اللوحات التي تصور القدس بتجريدية للمكان مع روح انطباعية وواقعية، واستخدمت ألوان الزخرفة بطريقة ملفتة للنظر، فتمازج الأقصى بالمآذن والبيوت التراثية، وتمازج الإنسان من خلال بعض المشاهد للمرأة الفلسطينية بثوبها التقليدي ورجل باللباس التراثي، وطفل صغير في لوحة، وفي لوحتين كانت المرأة الفلسطينية، وكان التمازج جميلاً حتى كاد يصل لدرجة الانصهار، بينما في المجموعة الثانية لجأت لتجريد الأمكنة بشكل كبير مع استخدام العديد من الرموز، بينما في المجموعة الثالثة، ومع الأسلوب الزخرفي نفسه باللون والأسلوب قدمت ثلاث لوحات قريبة جداً من روح الأطفال، فظهرت فيها الطيور في لوحة، والأطفال الرضع المحلقين كالفراشات في لوحة أخرى، ولوحة ثالثة استخدمت فيها أشكال الفرح من طيور وأشخاص وأشكال متنوعة، ويلاحظ في هذه المجموعة استخدام اللون الأزرق الفيروزي بجمالية خاصة، وهو لون قريب للروح جداً، وبالتالي حين نقيّم تأثير اللوحات على روح الأطفال سنجد تأثيراً إيجابياً يشد الطفل للوطن المغتصب والأقصى السليب، ولجمال الأمكنة وجمال الطبيعة، وهذه تأثيرات مهمة اعتمدتها الفنانة باختيار هذه المجموعة من اللوحات لتتناسب مع طبيعة المعرض والحضور من الأطفال.
   الفنانة الأخيرة كانت الفنانة المتميزة أسماء صبيح، وشاركت بلوحتين مازجت بهما الألوان الزيتية مع التركيب (لوحات الكولاج)، وهو فن يعتمد على مزج اللون الزيتي مع مواد أخرى، وأول من استخدمه "بيكاسو" في اللوحات الزيتية، بينما استخدمه الصينيون بالأصل من بعد اختراع الورق في القرن الثاني للميلاد. وفي اللوحة الأولى قدمت لوحة لامرأة تغمض عينيها، وتحلق فوق شعرها الأزهار وفوق رأسها أيضاً، امرأة جميلة كأنها تعيش لحظات من الحلم والتفكير، تحيط بها أوراق، واضح من الكلام بها أنها من كتاب نثري وجداني من خلال الكلمات بها، وتغطي نصف وجهها بشكل أشبه بغلالة شفافة تغطي العين وتغير اللون، ولكنها تخفي بعضاً من الشفاه برمزية مقصودة، وهذه اللوحة بالذات متقدمة جداً باستخدام الرمزيات فيها بطريقة تدل على تحليق روح الفنانة وهي تسكب نزف روحها بالألوان والفرشاة، بينما اللوحة الثانية كانت أيضاً لامرأة تغمض عينيها بحالة من الخدر اللذيذ، وجمالية اللون، والرموز من حول الوجه، وبرغم أن مستوى الفكرة في اللوحتين المعروضتين في المعرض تعتبر بمستواها الفني والفكرة والرمزية بها أعلى من قدرات الأطفال على فهمها، لكنها تشد الأطفال للأسلوب، وإمكانية أن يستخدموا المواد المختلفة بشكل فني، وهذه وسيلة تعليمية جيدة للأطفال، وتنمية مواهبهم الفنية، وذائقتهم الجمالية. والفنانة أسماء درست فن التصميم الداخلي، إضافة إلى عدة دورات رسم، وشاركت بعدة معارض فنية محلية، وكان لها معرضان شخصيان، إضافة على المشاركة بالعديد من ورشات الرسم.
   بتقديري فإن إدارة مركز زها والمشاركين قد نجحوا بتطوير قدرات الأطفال، وتوجيههم بشكل غير مباشر للكثير من القضايا، وإن فكرة مشاركة معرض للفن التشكيلي في فعاليات يوم التطوع كانت فكرة جميلة ومتميزة لتطوير قدرات الأطفال، وتنمية مواهبهم الفنية، وذائقتهم الجمالية والفنية، وهذا ما لمسته من خلال اهتمام الأطفال وأسئلتهم. وبعيداً عن ذلك، ومن ناحية المستوى الفني للوحات المشاركة، فقد كانت تترواح بين الجيد والجيد جيداً، مع ملاحظة أن بعض اللوحات الزيتية المشاركة كانت تحتاج اهتماماً تقنياً أكثر باستخدام اللون، والتعبير عن الفكرة، فقد كان هناك في بعض اللوحات نقاط ضعف متعددة، وبخاصة من حيث البخل باللون في العديد من زوايا بعض اللوحات، إضافة إلى نقاط ضعف أخرى. لكن مشاركة الفن التشكيلي في يوم للأطفال كانت فكرة جيدة، وأدّت دورها، وتحتاج لاهتمام أكبر من إدارة المركز، ولمست ذلك حين عودتي للبيت حين أخرجت حفيدتي "سيدرا" أوراقها وأقلام التلوين، وبدأت بالرسم الطفولي، وهمست لي: (جدو.. بدي ارسم وأصير فنانة مثل يللي شفناهم).
(رام الله) 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق