السبت، 25 فبراير 2017

اللغز في اللغة بقلم البروفيسور محمد الدعمي



د. محمد الدعمي
أ.د. محمد الدعمي كاتب وباحث أكاديمي عراقي
حري بالمرء أن يسائل نفسه كلما لاحظ بعض ما يتمتع به يوميًّا من نعم، بلا جهد ولا مال، بوصفها حقوقًا طبيعيًّا ومن بين ما شاب عليه الكثير من المفكرين والراسخين بالعلم، يتلخص في كنه أسرار اللغة وأصولها، بمعنى كيف وجدت وتطورت عبر الحقب لتخدم الوجود البشري الفردي والجماعي: نظرًا لأننا بدونها لا نملك مفاتيح الوجود المجتمعي ولا التحضر ولا أي شيء آخر يميز مملكة الإنسان عن مملكتي الحيوان و”الجماد”، كما يقال.
نحن جميعًا نأخذ اللغة وجودًا طبيعيًّا، متناسين أهميتها الجوهرية المشار إليها في أعلاه. أما كيف نشأت اللغة وتطورت من وجودها اللفظي الصوتي، حتى وجودها المدون، لتغدو إناء الفكر الإنساني، ومن زاوية معينة، تاريخًا لوجود النوع الآدمي عامة.
تشبه اللغات في وجودها وتطورها ونموها الكائنات الحية، ذلك أنها تولد وتنمو، تشب وتشيب، ثم تموت إن هي لم تستعمل من قبل الإنسان فتتحول إلى لغة أثرية مدونة حسب لا ينطق بها أحد، كما هي عليه حال اللاتينية اليوم، وحتى العبرية قبل عدة عقود.
أما سؤال كيف نشأت اللغة، فإنه استفهام قد شغل وشاغل علماء الألسنية التاريخية Philologists، خاصة وأن أغلبهم حاول جاهدًا أن يميط اللثام عن منشأ اللغة على نحو مخالف لما نزلت به الكتب السماوية من التوراة والإنجيل إلى القرآن الكريم، إذ إنها جميعًا تتفق على أن اللغة إنما هي “هبة” إلهية للإنسان على سبيل معاونته على الوجود المجتمعي، ثم على التطور والنمو والتقدم على سواه من المخلوقات.
ومع هذا، راح بعض الألسنيين يقولون بما سمي بالنظرية “المحاكاتية” Onapoeic Theory التي تفترض بأن منشأ اللغة يعود إلى حقب قديمة للغاية كان فيها الإنسان يحيا على نحو شبه حيواني، يصارع الطبيعة من أجل البقاء باحثًا عن القوت، وليس منتجًا له. يذهب هؤلاء كذلك إلى أن محاولات الإنسان الأولى لتوظيف لسانه وحباله الصوتية قد بدأت بمحاكاة اصوات الطبيعة: فمثلًا إن أراد الإنسان أن يقول مطر، فإن عليه أن يحاكي صوت المطر المنهمر على مسامع رفيقه أو رفيقته. لذا كان الأساس هو صوت الطبيعة، متحولًا إلى صوت إنسان، بالمحاكاة. وإذا أراد أن يقول بأن هناك وحشًا خطرًا في الجوار، على سبيل المثال، فإن عليه أن يومئ إلى الاتجاه ويحاكي صوت ذلك الوحش: (1) الصوت الأصل، زائدًا (2) الصدى على لسان الإنسان. لذا سميت هذه النظرية بنظرية الــ”بو/وو”، محاكاة لآلياتها الصوتية Bow-Wow Theory.
وهكذا بقي الراسخون بالعلم يحاولون كنه أسرار اللسان واللغة بمختلف الطرق وعبر متنوع الزوايا، خاصة بعد أن تشكلت لغات (أو وسائل اتصال، لا لغوية) من نوع لغة النقر للبرقيات Morse أما محاولات إيجاد لغة عالمية (لتحل محل جميع لغات العالم) Esperanto، فإنها محاولة للقضاء على اللغات القومية بدعوى جمع البشر في إناء لغوي تركيبي موحد، إذ تزال جميع الحواجز بين البشر بلسان واحد فقط، كما أراد لها “زامينهوف” Zamenhof، مبتكرها (1887).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق