الجمعة، 14 أبريل 2017

دلني على “الإنتليجنتسيا” العربية… ولك مكافأة بقلم البروفيسور محمد الدعمي



لست أرنو إلى نفي وجود “إنتليجنتسيا عربية” جملة وتفصيلًا، أي من باب إيراد الأدلة، لأني لا أشك بوجود عقول عربية ذكية تكدح، كدحًا فكريًّا وثقافيًّا حقًّا، منذ زمن طويل لتطوير الثقافة ونشر معطياتها التنويرية، عامة على نحو يغطي جماعات اجتماعية وفكرية لا بأس بأحجامها وأدوارها.
استعملت، شخصيًّا، لفظ الــ”إنتليجنتسيا” في أكثر من بحث نشرته مجلة جامعة الدول العربية (شؤون عربية) مشكورة، وذلك أثناء ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. كما أرفقت الكلمة الروسية أعلاه بلفظ “عربية” في محاولة مخلصة للكلام عن “إنتليجنتسيا عربية” آنذاك، بيد أني ما أن رحت أراجع توظيفي ذاك اليوم، حتى تلبدت غيوم الشكوك حول دقة استعمال اللفظ أعلاه، بغض النظر عن إجازته من قبل المجلة، من بين سواها من آنية ثقافية: فالسؤال اليوم، أي بعد توالي العقود والتغيرات الاجتماعية والسياسية والثقافية التالية، هو هل تسمح تضاريس الثقافة العربية اليوم بتوظيف التعبير أعلاه، بما يكفي من الثقة.
لست أرنو إلى نفي وجود “إنتليجنتسيا عربية” جملة وتفصيلًا، أي من باب إيراد الأدلة، لأني لا أشك بوجود عقول عربية ذكية تكدح، كدحًا فكريًّا وثقافيًّا حقًّا، منذ زمن طويل لتطوير الثقافة ونشر معطياتها التنويرية، عامة على نحو يغطي جماعات اجتماعية وفكرية لا بأس بأحجامها وأدوارها.
وإذا ما افترض المرء، جدلًا، وجود فئة اجتماعية تستحق أن يطلق عليها اللفظ “إنتليجنتسيا” بعد كل ما مرت به أغلب مجتمعاتنا من تجهيل وتراجع، للأسف، فإن للمرء أن يفترض بأن أية مراجعة لأحوالنا الاجتماعية غالبية المجتمعات العربية إنما تشير إلى أن وجود إنتليجنتسيا عربية يكاد يضمحل حتى يتلاشى ويفنى بالمرة، غارقًا في محيط قوامه انتشار الجهل والأمية التي لا تكن تقديرًا كافيًا لفئة الإنتليجنتسيا، فيما تمتد عناصر الجهل في كل اتجاه كالنار في الهشيم بسرعة فائقة. وإذا كان من المقبول الحديث عن نخبة إنتليجنتسيا مصرية من هذا النوع الرفيع عبر الثلثين الأول والثاني من القرن الماضي، فإن للمرء أن يتيقن بأنها لم تعد موجودة الآن: فإذا كان هناك من يكتب بالتزام مسؤولية تاريخية، ويقرأ بمسؤولية حقبة ذاك، فإن هاتين الظاهرتين (أي الكتابة والقراءة المسؤولية) إنما تغرقان أمام أعيننا اللحظة، بلا من يمد إليهما يد المساعدة للإبقاء على جذوة الذكاء والتطلع العربي متقدة. من منظور محلي، يحيا “كادحو الثقافة والاستنارة” في أغلب بقاع عالمنا العربي تحت وطأة تخلف الأنظمة السياسية والاجتماعية العربية المحبطة: فلا يمكن للمؤسسات الثقافية الحكومية أو سواها ترتقي بنفسها إلى أن تنتشل هؤلاء الكادحين ثقافيًّا من الفقر والإهمال ومن أنماط الإذلال والتجاهل والاضطهاد. أما من المنظور الآخر، وأقصد به تلك الومضات الثقافية الذكية التي تبدع الآن تحت درجات حرارة الحواضر الأوروبية والأميركية الشمالية، فإنها تبقى حبيسة عالم قوامه الأحلام، عالم اصطنعته بنفسها لنفسها، للأسف. وهذا ما قاد إلى خلاصة مفادها أن الإنتليجنتسيا المغتربة يمكن أن تقطع نصف المسافة الفاصلة بينها وبين الجمهور في العالم العربي، إلا أن قطاعات واسعة من هذا الجمهور غدا الآن بدرجة من ثبوط الهمة أنها لا تقوى على أن تخطو خطوة واحدة نحو الإنتليجنتسيا كي يتحقق اللقاء بينهما.
وبهدف عدم التغاضي عن عدد لا بأس به من العقول العربية والمسلمة الذكية التي لم تزدهر في تربتها المحلية للأسف، إلا بعد أن استزرعت في المنافي، فإن للمرء أن يستمكن الفجوة الفظيعة والمتسعة التي تفصل بين نخبة كادحي القلم والعقل، من ناحية، وبين الجمهور العربي عامة، من الناحية الثانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق