الخميس، 20 أبريل 2017

أنا و”جونز” بقلم : أ.د. محمد الدعمي



كانت “بانوراما” جهلها بالعرب وبالمسلمين من أهم دوافع تشبثي بأدبيات الاستشراق التي لم يسبق لباحث الخوض بها وقتذاك، للاستمتاع للوهلة الأولى، ثم للرصد والرد في المرحلة الثانية. لذا، فإن عليّ التوجه إليها بآيات الشكر والتقدير، خاصة إلى معرفتها الضئيلة بثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا وديننا.
على الرغم من أني لم ألتقِ بها سوى حوالي ساعة على مائدة العشاء في شقتي ببغداد، 1987، إلا أن “السيدة جونز” لم تفارق ذاكرتي قط مذاك حتى اللحظة. ومرد ترددها على هذه الذاكرة من آن لآخر، ليس جمال طلعتها ولا ثقافتها الرفيعة (هي تحمل شهادة الدكتوراه، ودرجة “أستاذ” في الجامعة في إحدى الجامعات الأميركية)، وإنما (على عكس ما قد يتوقع القارئ الفطن) هو جهلها بالثقافة العربية الإسلامية، ذلك الجهل الفظيع الذي حاولت مقاومته وهزيمته واستئصال شأفته طوال الأعوام التالية، متواصلًا في جهدي هذا حتى اللحظة.
منذ أن التقينا لأول مرة، قدمت السيدة جونز لي “بانوراما” مربكة وموجعة قوامها عشرات، وربما مئات، المفاهيم الخاطئة عن العرب والمسلمين، تاريخهم، حضارتهم، حاضرهم ومستقبلهم. كان ذلك قبل أن أرتحل للحصول على شهادة الدكتوراه في الأدب الإنجليزي، عام 1989. لذا كانت “بانوراما” جهلها بالعرب وبالمسلمين من أهم دوافع تشبثي بأدبيات الاستشراق التي لم يسبق لباحث الخوض بها وقتذاك، للاستمتاع للوهلة الأولى، ثم للرصد والرد في المرحلة الثانية. لذا، فإن عليّ التوجه إليها بآيات الشكر والتقدير، خاصة إلى معرفتها الضئيلة بثقافتنا وعاداتنا وتقاليدنا وديننا.
وكان دور السيدة جونز دورًا أساسًا في انتخابي “الاستشراق الثقافي والأدبي” موضوعًا لأطروحتي للدكتوراه، مدفوعًا برغبة جارفة لتصحيح الأخطاء وإزالة المفاهيم المشوهة والأنماط المتكررة عن ثقافتنا وشعوبنا، تطلعاتنا وآمالنا.
ومذاك، أبقيت على اتصالي بها وهي بعيدة في الولايات المتحدة، خاصة وأنها قد توسمت بي الكثير مما لا أستحقه من آمال وتقدير، إلا أن المهم هو أن تشبثها بتشجيعي وبمعاونتي كان قد كمن وراء عملي المركز في حقل المقارنات والمقاربات الثقافية والأدبية، وعلى جبهتين: جبهة تعيين واستمكان الاختلالات، وجبهة تقويمها وتصحيحها.
وإذا كانت السيدة جونز لم تأل جهدًا في إرسال ما احتجت إليه من نصوص ومصادر نادرة من كبريات المكتبات الجامعة الأميركية لمساعدتي على بحث واستقصاء ما يدور في خلدها من مفاهيم خاطئة بعد تعارفنا، خاصة بعدما اكتشفت هي (وبالتجربة الفردية المباشرة) أن بغداد لا تمخرها الجِمال، وإنما هي مدينة طبيعية حديثة فيها شوارع وسيارات وبنايات شاهقة، وبعدما تأكدت بأن هناك الكثير من الرجال المسلمين الذين يكتفون بزوجة واحدة، وليس برهط من الزوجات اللائي يقفن الواحدة تلو الأخرى في النسق! بل، لقد خدمت السيدة جونز نافذة على ما يحتفظ العقل الغربي به من الأخطاء أعلاه وأكثر عن عالمنا الذي يبدو هناك عالمًا منفلتًا من تيار الزمن، يدور في تيار لازمني، أشبه بعالم ألف ليلة وليلة، لا يدفعه في حركته الدورانية تلك سوى شواخص الماضي وأشكال وجوده الاجتماعي والثقافي والاقتصادي المتواضعة.
لذا، أعترف بأن “للسيدة جونز” الفضل علي في تعريفي دوري الثقافي سفيرًا ثقافيًّا منهمكًا بمد جسور التفاهم والحوار والتلاقح مع العالم الغربي حتى يتحقق التقريب بين العالمين من أجل الاندماج في عالم واحد تسوده وقيم المحبة والتعاون والاحترام المتبادل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق