الثلاثاء، 4 أبريل 2017

بلكون أم جواد! بقلم ميسون اسدي


سواليف الديرة- (6)

 بلكون أم جواد!



ذات ليلة مدرارة الغيث في قرية دير الأسد، تم نقل أبو جواد في سيارة الاسعاف إلى مستشفى "ملبن" في مدينة نهاريا، بسبب مرض الربو الذي عانى منه لسنوات طوال.. أبو جواد خصب الروح بحس فكاهته، وقد أورث هذا الحس لمعظم أفراد عائلته..
بعد أن أجريت العلاجات اللازمة لـ "أبو جواد"، قرر الطبيب بقاءه في المستشفى حتى تتحسّن حالته، وللصدفة، استلقى على سرير مجاور له مريض آخر في خريف عمره من قرية نحف المجاورة لقرية دير الأسد، وكما جرت العادة عند أبناء الشاغور، سهر أبناء المرضى مؤانسين آباءهم في المستشفى وقضوا أيامًا عديدة في الذهاب والإياب للاطمئنان على مرضاهم وتسليتهم، وقد تعارف ابن أبو جواد مع ابن المريض النحفاوي وربطت الاثنين علاقة صداقة متينة بسبب مرض والديهما ومكوثهما في المستشفى.
بعد فترة طويلة على حادثة المستشفى، شاءت الصدف أن يلتقي ثانية ابن أبو جواد مع ابن المريض النحفاوي، وكان والداهما قد ادركهما هازم اللذات ومفرق الجماعات وفارقا الحياة قبل ثلاث سنوات. فبعد التحية والسلام قال الشاب النحفاوي لابن أبو جواد الديراوي: أريد أن اقص عليك حادثة حدثت حينما رقد أبي وابوك في المستشفى وتدور احداثها بين أمك وابيك..
- هل تعرف ان أمي ايضًا قد فارقت الحياة ليس منذ أمد بعيد؟
- أعرف ذلك، رحمة الله على روحيهما وعظامهما..
- احكي ما عندك..
- أنا خجلان ولكن بي حاجة لأسردها عليك..
- قل ما عندك، انت تعرف أن والدي كان أبا النكت، فإذا كان عندك من جديد أحب أن اسمعه..
- والدتك أم جواد كانت تأتي لزيارة والدك يوميًا في المستشفى، ولم يستطع والدك العيش بدونها، فكانت ملء فكره وقلبه وحياته، وكانت تتذمر من طلباته وتردد: "عندي تسعة أولاد في البيت ويجب أن أسهر على رعايتهم"، فيرد عليها ابو جواد بلمحة البصر ودون اجتهاد وبمعاتبة وجفاء: "أيهذا الشاكي وما بك داء، كيف تغدو إذا غدوت عليلا؟".. وفي احدى المرّات، اشتد السعال على والدك، وتأزّم وضعه، أخذ يسعل بشدة وبين سعلة وسعلة يطلب مني أن اتصل بأم جواد واسألها متى ستأتي إليه في المستشفى.. في ذاك اليوم، لم يخطر ببالي- ولا اظنه خطر ببال والدك - أن أم جواد ستتأخر ولن تأتي في موعدها اليومي.. أشرف الوقت على ساعات العصر، وفي كل لحظة ينظر أبو جواد صوب الممر الذي يؤدي إلى قسمنا في المستشفى واكتسحته موجة من الغضب، وأخذ يضع يده فوق جبينه ليستبين الامر من الداخل إلى المستشفى من الزوار، ويسترسل في التأمل فيقول أبو جواد انظر: "ها هي امرأة فلان وصلت وامرأة فلان وصلت وهذه الفلانة الفلانية وصلت، وهذه العلانة العلانية وصلت، أينك يا أم جواد؟ لما لم تصل بنت المحروق بعد؟".. وعندما وصلت أم جواد أخيرًا..
صمت الشاب النحفاوي، لكن بنظرة تشجيعية من ابن أبو جواد قال: أخجل أن أقول لك ما قاله والدك...
- قل، احك..
- دخلت أم جواد تحمل زجاجتين من العصير، ولجت إلى القسم الذي يرقد فيه والدك بجانب والدي، وما ان رآها أبو جواد حتى وقف على السرير فسألته أمك: "ما بك يا أبو جواد؟".. فقال والدك بصوت متهدج وبشيء من اللهفة: "ها هي.. هلت علينا أم جواد..هل هلالك يا رمضان".. وأضاف بنوع من الكبرياء والاعتداد بالذات: "عزا عزا عزا يا أم جواد جاي ترطّي بطيازك على زجاجتين من العصير...".
عرف ابن أبو جواد بأن أمه تملك مؤخرة ضخمة، وعرف كم كان الجميع يتندّر بهذه المؤخرّة، وخاصّة والده، فسأل صديقه النحفاوي: هل هذه هي النكتة؟
- نعم، وكنت خجلا من سردها عليك..
فأجابه ابن أبو جواد بضحكته المعهودة التي ورثها عن والده: يا عمي بعدك مش سامع شيء من نكات أبي، فله مواقف كثيرة مضحكة، وهذه لا تعتبر طرفة مضحكة لما سأرويه لك، فقد كان يطلق على مؤخرة الوالدة "بلكون"، نظرًا لأن البلكون يكون ناتئًا عن الهيكل الكلي للبيت، ويشبه شكل مؤخرة أم جواد الذي خرج بعيدًا عن هيكلها الأساسي..
ضحك الصديق النحفاوي، وأخذ يستمع لما قاله المرحوم أبو جواد عن مؤخرة زوجته من ابنها..
***
مرّة، ذهب أبو جواد وزوجته أم جواد في العيد الكبير ليعايدا على أحد الاقارب، وجرت العادة في مثل هذه المناسبات، أن ينتقلا من بيت لبيت في صباح أول يوم العيد، وفي كل بيت يمكثان نحو عشر دقائق، حتى يتمكنا من زيارة أكبر عدد من الأقارب، ثم ينتقلان إلى بيت آخر، بعد أن يتناولا حبّة من الحلوة أو كعك العيد مع فنجان القهوة..
من أجل الصدفة، جلست أم جواد على "كنباي" فردية، وهي عبارة عن مقعد كبير يتّسع لشخص واحد، حيث يجلس عليه براحته، لأنّه أكبر من المقاعد العاديّة وأثقل منها بكثير، وله يدان على طرفيه، وبمجرّد أن جلست أم جواد عليه، دخل اللحم الزائد والنافر من مؤخرتها تحت يدي المقعد الوثير، فجاءت جلستها مريحة..
عندما همّ أبو جواد وأم جواد بالخروج من البيت، نهض أبو جواد وقال: "كل عام وانتم بخير يا جماعة، ينعاد عليكم بالخير والبركات".. ثم نهضت بعده أم جواد، تريد أن تدلي ببركتها للعيد، وإذ بالكنباي علقت بمؤخرتها، حيث لم تخرج من الفراغ الموجود تحت يدي المقعد، مما أضحك الجميع خجلا، فما كان من أبو جواد إلا أن سحب المقعد وهو يقول ساخرًا ومعتذرًا للجماعة: لا تآخذونا يا جماعة، بلكون أم جابر ينقصه مثل هذا المقعد..

وللحديث بقية، ولكن إلى حين...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق