الجمعة، 7 أبريل 2017

هل يلتهم الذكاء الصناعي أصله الفطري؟ بقلم البروفيسور محمد الدعمي


لذا  يواجه النوع الآدمي اليوم معضلة الاستغناء عنه، بل وحتى عن ملكاته الذهنية والتفكيرية والمنطقية، باعتبار تدشين العصر الجاري لما يسمى بـ”الذكاء الصناعي”، لأن هذا الذكاء (الذي أنتجه الذكاء الفطري للإنسان في بداية الأمر) يجعل الحياة تستغني عن استعمال الذكاء البشري الطبيعي: فأنت اليوم لا تحتاج حتى إلى خريطة تساعدك على الوصول إلى موضع ما.
قضّ دخول الماكينة جميع مفاصل الحياة في بريطانيا عصر الثورة الصناعية مضاجع أذكى العقول حقبة ذاك، من كارلايل Carlyle إلى وليام موريس Morris، من بين آخرين كثر، إذ قلبت الماكينة الحياة من أنساقها الاجتماعية والإنتاجية المترسبة من العصر الوسيط، لتنتقل بريطانيا نحو أبواب العصر الحديث. وإذا ما كانت استجابات العبقريات حقبة ذاك لهذا الحدث الجلل متنوعة، ومتناقضة أحيانًا، بين “اشتراكي يوتيوبي” متفائل من نمط موريس، وبين متشائم رجوعي من نمط رسكن Ruskin، فإن ما يجري اليوم في عالمنا المعاصر مما لم يكن يخطر على بال هؤلاء المفكرين الفكتوريين قط يدل على أننا حيال أنماط جديدة من المآزق والهزات والرجات العنيفة.
وإذا كانت الحساسية الفكتورية قد استجابت لدخول الماكينة الحياة الحضرية والريفية بشيء من “القلق الحضاري والروحي” مع شيء من الخوف من المستقبل ومصير الإنسان المنظور، فإن ما يواجهنا الآن أعسر بكثير من ذلك الذي بقي يواجه عبقريات العصر الفكتوري. ودليل ذلك لا يستعصي على الفهم والإدراك، وهو: أن بواعث الخوف الفكتوري كانت تتلخص في الخوف من احتمالات أن تحل الماكينة محل العضلة الآدمية في الإنتاج الصناعي والزراعي والتجاري، بينما أن خوفنا اليوم لا يكمن في مواجهة هذا الاستبدال (المكننة بديلًا عن العضلة) فقط، وإنما يكمن في حذف النوع الآدمي كليةً من الأنشطة الفكرية، زيادة على الأنشطة الآلية والحركية.
لذا يواجه النوع الآدمي اليوم معضلة الاستغناء عنه، بل وحتى عن ملكاته الذهنية والتفكيرية والمنطقية، باعتبار تدشين العصر الجاري لما يسمى بـ”الذكاء الصناعي”، لأن هذا الذكاء (الذي أنتجه الذكاء الفطري للإنسان في بداية الأمر) يجعل الحياة تستغني عن استعمال الذكاء البشري الطبيعي: فأنت اليوم لا تحتاج حتى إلى خريطة تساعدك على الوصول إلى موضع ما. الهاتف الذكي هو الذي يقوم بكل شيء، بل هو الذي يكون رفيقك بدلًا عن اصحابك القدماء.
إن مركب “المكننة والذكاء الصناعي” إنما يضع البشرية أمام مفترق طرق من النوع الذي لا يمكن أن يصدق من متاعب وتعقيدات، مبعثها المقولة المشهورة: “استعمله، أو افقده” Use it, or Lose it، فإذا أنت لم تستعمل أقدامك، على سبيل المثال، فإنك يمكن أن تخسرهما عبر مرور الزمن ليستحيلا أعضاءً أثريةً، كالطيور الداجنة التي فقدت القدرة على الطيران، بسبب التدجين وعدم استعمالها أجنحتها. وكذا هو الحال مع الإنسان، فهو إن لم يستعمل أي عضو مما حباه الله له، فإنه يمكن أن يخسره حسب قانون التقادم وعدم التوظيف. وإذا كان فيلم “الأزمنة الحديثة” Modern Times لتشارلي شابلن قد أماط اللثام عن مخاطر المكننة الزائدة على إنسانية الإنسان، فإننا اليوم بحاجة إلى أفلام وكتابات وتشكيلات ثقافية كاملة كي نتمكن من الحفاظ على أدمغتنا التي تتعرض اليوم إلى غزو الذكاء الاصطناعي: فبعد أن كنا نحسب الحسابات بعقولنا دون حاجة للحاسبات، لم نعد نحتاج لذلك الآن. بل إني قد شاهدت قبل بضعة أيام سيارة أجرة صالون “ذاتية القيادة” Self-driving أو Autonomous ، أي أنها لا تحتاج لقائد يجلس وراء المقود، فهي تقود نفسها بنفسها، ولا داعي لوجع الرأس وللنقابات ولرجال المرور وسواها من هيئات حماية حقوق العمال والعمالة. أما شركة Amazon التي تضطلع الآن بطباعة ونشر وتوزيع كتبي باللغة الإنجليزية، فلديها الآن أسطول كامل من “الـــدرونات” Drones التي حذفت دور البريد ودور “البوسطجي” معه، على تنوعاته، لأنها ترسل إليك ما تبتاع على الكومبيوتر عبر الإنترنت بالدرون إلى بيتك، بل وربما إلى غرفة نومك، عبر النافذة المطلة على الشارع، إن شئت! ناهيك عن ظاهرة إغلاق المئات من مراكز التسوق عبر العالم الغربي بسبب حلول الإنترنت محلها.
إن تسريح العقل الآدمي من العمل، كما يحدث الآن على نحو تدريجي، عبر العالم الغربي، إنما سيقود إلى “إحالته على التقاعد” كي يستغني النوع الآدمي عن خدماته بالذكاء الصناعي/الرقمي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق