الثلاثاء، 21 أبريل 2015

أفطن على الأعوام المضيئة


أ.د. محمد الدعمي
” في حقبة التعطش الثقافي السابقة، تلك الحقبة التي شاعت عبر أعوامها المقولة أعلاه، كانت القاهرة تزهو بأقلام سيالة لامعة طرزت سماءها، وكان البغاددة يتبجحون متشبثين بالثقافة، بينما كانت بيروت تعد كل من رأى نفسه أعلى مرتبة من سواه إنساناً “متبغدداً”، باعتبار تراث بغداد الحضري العميق عندما كانت بغداد مدينة كونية cosmopolitan في عصر “بيت الحكمة”،”
ـــــــــــــــــــــــــــــ
عندما كانت “القاهرة تؤلف، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأ” في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، لم تكن الثقافة العربية في حال من الركود والتراجع، كما هي عليه اليوم، ببالغ الأسف: حيث لم تعد القاهرة قادرة على التأليف ولابيروت قادرة على النشر بينما ينشغل البغاددة بالحفاظ على وجودهم الفيزيائي فرادى وجماعات، في خضم معركة وجود من أجل البقاء وهي معركة استطالت منذ سنة 1980 المشؤومة ولم تزل دون أية بارقة أمل بسلام وسكينة.
في حقبة التعطش الثقافي السابقة، تلك الحقبة التي شاعت عبر أعوامها المقولة أعلاه، كانت القاهرة تزهو بأقلام سيالة لامعة طرزت سماءها، وكان البغاددة يتبجحون متشبثين بالثقافة، بينما كانت بيروت تعد كل من رأى نفسه أعلى مرتبة من سواه إنساناً “متبغدداً”، باعتبار تراث بغداد الحضري العميق عندما كانت بغداد مدينة كونية cosmopolitan في عصر “بيت الحكمة”، يأتيها الكتّاب والعلماء والصنعة والحرفيون من كل حدب وصوب بحثاً عن فرص الإثراء والشهرة، كما يتوجه أمثالهم اليوم الى كوزموبوليتان العصر، نيويورك، في جهودهم لاصطياد الفرص وللإثراء ولكسب الشهرة.
لم يتبق شيئ من هذا كله في عالمنا العربي اليوم. فقد استحال هذا العالم الى ميدان حرب ضحاياها غالباً ما تكون من العرب أنفسهم بينما تدور رحى هذه الحرب، على تفرعاتها وأماكن وأشكال اشتعالها بأموال ودوافع لا تتمنى للعالم العربي أي خير ولا ترجو له أية نهضة.
في المرحلة الذهبية التي شاعت خلالها تلك المقولة المهمة، لم تكن بيروت تطبع وتنشر وتسوق فقط ، فقد كان جزء من عقلها الجماعي يستثمر معارفه باللغات الأوربية، بفضل تراث الفرنسيين والآباء اليسوعيين، من بين سواهم، هناك، في حملة عملاقة لتعريب كنوز الثقافات الغربية على نحو يعكس إرتفاع الطلب على الأعمال المعربة، لأن النشء والشبيبة العربية لم تكن مشغولة بالإرهاب ولا بمكافحته. بل هي لم تكن تسمع بلفظ “إرهاب” أو “إرهابي” قط ، أو ربما سمعته مرة واحدة كل بضعة اشهر! لقد عرّب اللبنانيون، سوية مع سواهم من الأقطار العربية الأخرى، الكثير من تلك الكنوز. وهي، على الرغم مما شابها من اختلالات ونواقص، تمكنت من نقل أقباس تلك الكنوز الى القاريء العربي، وإن على نحو مبتسر. ومرد ذلك كان جشع الناشرين، فما أن يلتقط الناشر خبراً مفاده أن “جان بول سارتر” أو “كولن ولسون” قد نشرا كتباً جديدة، حتى يسارع للحصول على نسخة من تلك الكتب الجديدة! كي يشبع به “جوع الثقافة” المستشري عندنا حقبة ذاك. ثم ما يلبث الناشر أن يقسم الكتاب الأجنبي الى عدة “ملزمات” أو فصول كي يتوجه الى مقاهي بيروت الجميلة في الحمرا وفي سواها من أحياء عروس البحر المتوسط حتى الروشة. كانت تلك المقاهي مراجل للتفاعل الثقافي والفكري الساخن، بين يساري ويميني، وجودي وديني، تقدمي ورجوعي، لأنها كانت تستقبل وتجمع كل من يتوثب للمعارف أو للتفاعل الفكري والثقافي: فكان بين من يحتسون فناجين القهوة المنشطة والمقطرة بكثافة هناك المؤدون والمشاهدون: المؤدون كانوا شعراءً وكتاباً وصحفيين، بل وفلاسفة وفنانين ومتكلمين ومتفيقهين؛ بينما كان المشاهدون والمتابعون من طلبة الثانويات والجامعات الذين يرمون لإيجاد موطيء قدم لهم في “الساحة الثقافية” لأن هذه مهمة أو رغبة محفوفة بالمخاطر وتنتظرها صعوبات الاعتراف بـ”المبتديء” وبقدراته، مثقفاُ من خلال نشر إقصوصة أو مقطوعة شعرية قصيرة أو خاطرة، وإن في صفحة “بريد القراء” أو “صفحة هواة الأدب”.
كان ذات التطلع الثقافي الرفيع يجري في بغداد، حيث تزدحم مقاهي المثقفين المعروفة مثل “مقهى الشابندر” و”مقهى حسن العجمي” و”مقهى البرلمان”، بل وحتى “مقهى العباقرة” بأمثال هؤلاء الأذكياء المعتدين بأنفسهم درجة الترفع عن السفاسف والدونيات.
أما القاهرة، فقد كانت عاصمة الأسماء اللامعة المشهورة في عالم الثقافة العربية، من طه حسين إلى العقاد، ومن سلامة موسى الى محمد حسنين هيكل: فلا غرابة في أن ينشغل مرجل القاهرة الثقافي والفكري الساخن في إطلاق أسماء لامعة جديدة نحو سماوات الإستنارة لتضيء على الأمة التي كانت تعيب على نفسها جهلها آنذاك. ولا أدري ما الذي ستعيبه على نفسها اليوم في خضم تحول بعض عواصمها الجميلة الى كاتونات طائفية وشللية وجرمية تحارب بعضها البعض، وكأن تاريخ العراق القديم يرتجع الى عصر “دويلات المدن”، عندما كانت كل مدينة كوكب بذاته تحت هيمنة رجل قوي إقطاعي مديني يدير ميليشيات تفرض له الأمن والاستقرار وجباية الضرائب، للأسف.
إنه لمن نافلة القول أن نسأل: أين كان عرب أواسط القرن الماضي، وأين غدوا الآن، برغم معاونة ودافعية الثورة الرقمية ووسائل التفاعل والتواصل الاجتماعي؟



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق