أ.د. محمد الدعمي
” وللمرء أن يعلن الآن بأنه قد حان الوقت الذي يتوجب على النخبة الثقافية العربية الإسلامية أن تضطلع بوظيفتها التنويرية، ليس بديلاً عن القوى الفاعلة، ولكن نموذجاً سلمياً يمكن محاكاته والاستنارة به من قبل الجمهور الواسع حيث تهيمن الفوضى بدلاً عن النظام، الانفعال بدلاً عن التفكير السلمي الهاديء.”
ـــــــــــــــــــــــــ
.. وأخيراً أرغم العرب العقلين الإداري والإعلامي الأميركيين على إعلان عجزهما عن الإلمام بأوضاعهم، بدليل الرسم التوضيحي العصي على التتبع الذي إنتشر على صفحات الإعلام الأميركي والغربي عامة، مجسداً تداخل الخطوط واختلاطها عبر عواصم العالم العربي وبين المؤدين الفاعلين في حياته السياسية و”العنفية” المختلطة كما هي عليه اليوم: فلو حاول أكثر الخبراء الأميركان رسوخاً بالعلم في أحوال العرب وتنوع مشاربهم الفكرية وتشبثاتهم المستقبلية أن يقدم ملخصاً لرئيسه أو لرئيس دائرته، ملخص يعكس صورة قابله للفهم حول أوضاع العالم العربي اليوم، فانه لابد وأن يخفق في الإتيان بمثل هذه الصورة التي يمكن للعقل الإحاطة بها: التعقيد لا يكمن في رسم هذه الصورة على نحو شامل فقط، ولكنه يكمن كذلك في الحيرة واليأس اللذين سينتابان من يحاول فهم هذه الصورة والإلمام بجميع أبعادها وتشعباتها وإمتداداتها. وهكذا انتصرت الفوضى على لاحضارة الرقمية، مستدرجة إياها الى إقليم غير قابل للعقلنة.
وإذا راح الساسة الأميركان، وبضمنهم الرئيس باراك أوباما ذاته، يتحدثون عن الشيعة والسنة وسواهما من الطوائف الإسلامية، المتصارعة للأسف، بصراحة وبصوت عال، كما لم يكن وارداً في حساباتنا يوماً، فان السيد “ماركو روبيو”، المتسابق الجمهوري لإنتخابات الرئاسة الأميركية القادمة (2016)، قد رفع ورقة التين الأخيرة التي كانت تغطي عورة الشرق الأوسط عندما تحدث في مقابلة مهمة لبرنامج “واجه الأمة” (يوم الأحد 19 ابريل) حول “قنبلة ذرية شيعية” و”قنبلة ذرية سنية”! لاحظ التحجيم المخل. وللقاريء الكريم تصور مدى هبوط صورة العالم الإسلامي في أعين الغربيين، وبفضل المسلمين أنفسهم، حيث تتشكل عبر عالمهم قوى متنافرة تقتسم هذا الدين ومعتنقيه درجة تحولهم الى أعداء لأنفسهم، أقرب لعداوة “الأخوة كرامازوف”.
السيد روبيو لا يخشى على المسلمين إمعانهم المتعامي في التدمير الذاتي لأنفسهم وأموالهم وآفاقهم المستقبلية، بقدر ما يخشى من تناثر الشرار المتوقع من اي إرتطام أو إنتشار ذري من عالمنا المأزوم نحو العالم المستقر، بمعنى العالم المتحضر الذي سمح للمتكلم (أي روبيو)، وهو من والدين كوبيين، أن يتنافس على رئاسة الولايات المتحدة الأميركية للسنة القادمة! ومن يعلم فقد يفوز فيحكم رجل لاتيني أقوى دولة في العالم، وهو لا يهمه أن ينتحر العالم الإسلامي بقنابله الذرية ذاتية التدمير الكتلوي الشامل بقدر ما يهمه أن يرد جميل أميركا عليه وعلى والديه لأنها أطلقته الى عالم سياسة سلمي، تسوده روح التعاون لا التناحر.
وللمرء أن يندب حالنا اليوم على ما إنحدرنا اليه من غياهب صراعات تسلسلية لا تسبر أغوارها ولا يمكن إلا أن تعكس صورة للإضطراب الذي عمل الذين لا يحبون الإسلام دهوراً لفرضه على العالم الإسلامي بالشكل الذي نشهده اليوم ونسهم في تعقيده بكل جدارة نيابة عن أعداء العرب والمسلمين.
وللمرء أن يعلن الآن بأنه قد حان الوقت الذي يتوجب على النخبة الثقافية العربية الإسلامية أن تضطلع بوظيفتها التنويرية، ليس بديلاً عن القوى الفاعلة، ولكن نموذجاً سلمياً يمكن محاكاته والإستنارة به من قبل الجمهور الواسع حيث تهيمن الفوضى بدلاً عن النظام، الانفعال بدلاً عن التفكير السلمي الهاديء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق