يدور الحديث دورانا عجيبا عبر جميع دول العالم الآن عمّا أطلق عليه وصف “التباعد الاجتماعي” Social distancing. وإذا كان الكثير من سكان الأرض يحاولون الالتزام بهذا التباعد (على درجات) من أجل الحفاظ على صحتهم، بل وبقائهم من مهاوي الفيروس القاتل Covid-19. وإذا كانت البشرية قد تمكنت الآن من تمديد المسافة الفاصلة بين فرد وآخر، وذلك باستعمال اللغة والتخاطب عن بعد، ليس وجها لوجه ولا همسا في الآذان فقط، ولكن كذلك عبر التقنيات الرقمية والحواسيب، فإن المهم هو أن التواصل يتحقق باللغة، كما كان منذ أقدم العصور.
وإذا ما بقيت “اللغة” الوسيلة الأفضل والأكفأ للتواصل، فإنها تستحق الملاحظة والبحث، نظرا لأهميتها في حياتنا الاجتماعية، قناة اتصال أكفأ من أية قنوات أخرى، وذلك بفضل التقنيات الحديثة من نوع “التهاتف” و”التكاتب”، ناهيك عمّا جاء بعد ذلك من وسائل وقنوات اتصال أكفأ وأسرع وأكثر دقة، اعتمادا على اللغة كذلك.
والطريف هو أن هذا الموضوع المهم الآن أكثر من أي وقت مضى لا بد أن يجعل العقول الذكية تتأمل “نعمة” اللغة التي يستحيل بدونها الوجود المجتمعي، ذلك أن اللغة مسموعة ومكتوبة إنما هي واحدة من أعظم معطيات الوجود البشري على الأرض: فبدونها يطفو الإنسان على “موائع” الزمان والمكان (الزمكان) بلا معنى ولا جدوى.
لهذا السبب (من بين سواه) عد المتدينون “اللغة” “هِبَة” أو هدية للإنسان، من الخالق، وبهذا اكتفوا بما ورد في الكتب الدينية المقدسة من تواريخ وإشارات إلى اللغة واصولها، وإلى أن حرمان الله البشر منها إنما يؤدي إلى انفراط عقد الحضارة ونهايتها، وربما نهاية “النوع الإنسي” بكامله، الآن وإلى الأبد.
ومن منظور آخر، لا يرغب علماء الألسنية Linguists بالاقتناع بالنظرية الدينية أعلاه، حول أصل اللغة وتطورها، ذلك أن تصنيفها “نعمة” إلهية إنما يبدو للعلم أشبه بالإخفاق في التنقيب بعمق بحثا عن أصل اللغة التي بقيت منذ الأزل “حجر الزاوية” للوجود الآدمي على الأرض مجتمعيا. لذا تتبع هؤلاء العلماء خطى “نظرية دارون” في التطور، في محاولة لنبش أصول اللغة من جذورها وحتى تفرعاتها إلى أن وصلت إلينا: على شكل شجرات لغة، تشترك كل واحدة من اللغات المعروفة في العالم اليوم بأصل التفرع من أحد هذه الشجرات أو “العوائل” اللغوية، من نوع “اللغات السامية” Semitic، و”اللغات الهندوـ أوروبية” Indo-European، زيادة على عوائل لغات أخرى من نوع اللغات الآسيوية كالصينية واليابانية. ناهيك عن اللغات التي لم يسمع بها سوى المختصين، “كلغة الأسكيمو” ولغات الأقوام البائدة أو الأقوام التي في طريقها للانقراض كلغات الأقوام البدائية في جزر جنوب المحيط الهادي وجنوب المحيط الهندي.
وعليه، يذهب عدد لا بأس به من المختصين بعلم اللغة التاريخي Philology إلى أن اللغة لا يمكن أن تكون قد خلقت، كما خلق الإنسان بحسب النظريات الإنجيلية، ذاهبين إلى تطبيق قانوني داروين في “التطور” و”البقاء للأصلح”، إنما تساعد لتتبع أصول اللغة عامة، وبغض النظر عن التعقيدات التالية تاريخيا، تلك التي فرضتها البيئة التي تستعمل بها لغة معينة. (للموضوع بقية…….)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق