الجمعة، 6 أبريل 2018

'ON THE CLOUDINESS OF CONCEPTS IN THE ARAB WORLD' BY MUHAMMED AL DAMI




”ربما وجب أن نتابع ما فعله أبناء محمد علي باشا من خطوات نحو التحديث والتغريب في مصر، درجة أن الخديوي إسماعيل (1863-1879) قد أعلن أن مصر لم تعد دولة إفريقية وإنما هي جزء من أوروبا، واضعا مصر في مصاف فرنسا وبريطانيا بسبب ما أحدثه هو من خطوات مهمة نحو “التغريب”، ذلك أنه أسس “دار العلوم” (1872)، ثم افتتح أوسع أكاديمية تالية لمرحلة الدراسة الإعدادية أو الثانوية.”
إذا كان الشاه محمد رضا بهلوي قد أخطأ “التحديث” بوصف “تغريب”، فإن كبوته هذه قد أدت بنظامه كاملا، بيد أن ما شابت رؤيته من غيمية إنما قد أخلت برؤى من تلاه عبر عالمنا العربي/الإعلامي. ولنا أن نلاحظ ذلك، كما يلي:
لست أشك، في أن بواكير التحول المسمى بــ”التحديث” أو “التغريب” قد بدأ في اللحظة التي شعر بها الباب العالي ثم السلطان العثماني بأن امبراطوريته آخذة في الاضمحلال وفقدان حيويتها بسبب التقادم وعدم القدرة على الاجتهاد والتلاقح الحضاري والثقافي، لذا غالبا ما يشار إلى السلطان محمود الثاني (1808-1839) بوصفه من أوائل أولي الأمر الذين فكروا بالتحديث والتغريب على سبيل مد يد الإنقاذ لإمبراطورية عثمانية آخذة بالضعف والهوان.
إن علامات الضعف والهوان راحت تتوالى بعدما فقدت الأستانة (العاصمة إسطنبول) قدرتها على الإمساك بالأطراف بين هنجاريا ومصر، الأمر الذي يفسر دواعي استباق محمد علي باشا (1805-1848) في القاهرة للأستانة في عملية التحديث، من أجل بناء إمبراطوريته الخاصة، على نحو: “إمبراطورية داخل إمبراطورية”! لقد بادر محمد علي باشا إلى العديد من الإصلاحات ومشاريع العمران بمصر، إلا أنه ما لبث أن انتبه، خاصة إلى أهمية مد الجسور مع أوروبا بسبب تقدمها التقني وإمكانية تطبيقاته في مصر، خاصة بعد أن بدأ لديه الشعور بالقوة والانتشاء. لذا، فقد أسس عددا من المدارس (أو الكليات) التخصصية، منها المدرسة الحربية ومدارس الأعمال والصناعات، زيادة على “مدرسة الألسن” لتعلم ولدراسة اللغات الأوروبية، بوصفها الجسر الوحيد الذي يربط شمال إفريقيا بجنوب أوروبا ثقافيا. والحقيقة هي أن هذا لا يختلف كثيرا عن الإجراءات التي اتخذها السلطان العثماني المصلح محمود الثاني في الأستانة، بقدر تعلق الأمر بإرسال البعثات الدبلوماسية إلى العواصم الأوروبية وتحرير الترجمة إلى التركية من “الترجمانات” الإغريق من مواطني الإمبراطورية عن طريق نشر وتوسيع تدريس اللغات الأوروبية، زيادة على توجيه الانتباه إلى أهمية أموال الأوقاف، تماما كما فعل محمد علي باشا في مصر، حيث كانت هذه الخطوات تعد تأميما لمصادر تمويل المؤسسة الدينية متمثلة بالعلماء، الأمر الذي يعني وضع اليد على مصادر تمويل دور العبادة ورجال الدين من أجل مضاعفة الواردات، وهذا ما أقدمت عليه الأستانة كذلك، خاصة بعد أن عين “الخليفة” العثماني رئيسا للملة من قبل كبار رجال الدين المسلمين. هذه حال معاكسة لما حدث في بلاد فارس حيث استعصت الأوقاف على الشاه باعتبارها حقا محرما على سوى ـ”العلماء” غير قابل للمناقشة. لذا بقيت المؤسسة الدينية في إيران عصية على السلطة تواصلا حتى تاريخ الثورة الإسلامية 1977-1979.
بيد أن مصر كانت سباقة، مقارنة بتركيا. ولهذه الحال كثير من الدلالات المعاني لأن محمد علي كان يبني إمبراطورية جديدة له ولذريته في مصر، بينما كان محمود الثاني يحاول الحفاظ على الإمبراطورية المضمحلة التي ورثها من التفكك ثم الغرق. وهنا تجدر الإشارة هنا إلى زعيمين عثمانيين عملا بقوة من أجل تحديث آليات ودوائر الدولة الإمبراطورية العثمانية في “عصر التنظيمات” Tanzimat، أي العصر الذي اقترن بالتنظيمات أعلاه، هذان الزعيمان هما أصلا جنرالات، حيث عملا على تحسين الجيش العثماني وترصين قدراته بوصفه العمود الفقري للإمبراطورية. وكان التحسين، في مناسبات عدة، قد عنى استيراد الضباط الألمان والفرنسيين لتدريب الجيش ومن ثم للتخلص من تقاليد وحدات “الجندرمة” العثمانية الأصلية التي بقيت مقاومة للتحديث وغير قابلة للتذويب في بوتقة التغريب والتغير.
ربما وجب أن نتابع ما فعله أبناء محمد علي باشا من خطوات نحو التحديث والتغريب في مصر، درجة أن الخديوي إسماعيل (1863-1879) قد أعلن أن مصر لم تعد دولة إفريقية وإنما هي جزء من أوروبا، واضعا مصر في مصاف فرنسا وبريطانيا بسبب ما أحدثه هو من خطوات مهمة نحو “التغريب”، ذلك أنه أسس “دار العلوم” (1872)، ثم افتتح أوسع أكاديمية تالية لمرحلة الدراسة الإعدادية أو الثانوية، زيادة على “كلية القانون” (1886). لقد لاحظ الخديوي إسماعيل إيجابيات اتباع خطى أوروبا عبر البعد الثقافي لـ”أوربة” مصر، وذلك عندما أسس أول مكتبة وأول متحف، ناهيك على إفتتاح قناة السويس التي قلبت خطوات الملاحة الدولية رأسا على عقب وجعلت الرحلة بين لندن وكلكتا أقل من ربع طول مسافتها السابقة!
والطريف هنا هو أن مصر (بين عامي 1869 و1872) كانت بدرجة من التقدم والغنى والثروات أنها كانت تستورد اليد العاملة من بقية الأرجاء، خاصة من جنوب أوروبا، على عكس الحال اليوم، حيث تصدر مصر الأيادي العاملة إلى العديد من الدول، ومنها دول عالمنا العربي، دول الخليج العربي بخاصة!
وإذا كانت اسطنبول والقاهرة هما أهم مركزين للتحديث والتغريب على مستوى الشرق الأوسط حقبة ذاك، فإن علينا أن لا نغفل دور ناصر الدين شاه، الشاه القاجاري الذي أطلق، هو الآخر، حملة تحديث وتغريب في بلاده، إيران، جاعلا منها المركز الثالث لهذا التيار التقدمي بعد القاهرة والأستانة. وقد شملت أعمال ناصر الدين شاه (1848-1896) افتتاح “دار الفنون” (1851) على سبيل تأسيس وتطوير طبقة بيروقراطية إيرانية من التكنوقراط القادرين على إدارة شؤون الدولة وتحسين أدائها، زد على ذلك أنه تنبه إلى أهمية الجيش، كما فعل محمد علي باشا والسلطان محمود، خاصة وأن دولته قد اعتمدت وحدات عسكرية مستجمعة من القبائل المتناثرة في إيران، وليس على جيش نظامي يحاكي الجيوش العالمية الحديثة في التنظيم. وهكذا أسس ناصر الدين شاه لواء القوزاك Cossack Brigade (1879) على سبيل الإمساك بدولته المترامية والوقوف ندا للإمبراطورية العثمانية المجاورة. وهنا اضطر ناصر الدين شاه إلى الاستعانة بضباط روس لقيادة هذه القوات التي راحت تتدرب وتستعمل الأسلحة الروسية والتجهيزات العسكرية الروسية.
إن أية مناقشة لمفاهيم “التقدم” والتحديث والتغريب تنجح في إماطة اللثام عن حجم الإرباك الذي أصاب العقل العربي/المسلم حيال ما جاءت به الماكنة الصناعية الغربية سوية مع ما حرفته معها من مفاهيم وطرائق تفكير، من معطيات وإرباك، درجة تنوع تأثير هذه الاستجابات الفكرية للوافد الأجنبي في تشكيل أفكار فلاسفة وحركات سياسية وفكرية لم تزل فاعلة في العالم العربي حتى الساعة، متواشجة حتى اللحظة مع مناقشات عاصفة من نوع “الحداثة” معاكسا “للتراث”، والغزو الثقافي معاكسا للارتجاع إلى “السلف الصالح”، من بين موضوعات ساخنة أخرى أقضّت مضاجع المفكرين العرب والمسلمين، وملأت صفحات المطبوعات بالجدل والمناقشات والمبارزات اللفظية. مثل هذا الموضوع، وحسب هذه المحكات، يمكن أن يلقي الضوء على تفاعلات العقل العربي/المسلم واستجاباته، كبواته وإضاءاته عبر العصر الحديث الذي يمكن أن يعود بقطار الذاكرة العربية الإسلامية إلى القرنين الخامس عشر والسادس عشر الميلاديين حيث تبلورت أولى علامات الحاجة إلى الاستيراد والإفادة من المنتج الغربي بتثوير “الساكن” العربي أو “الراكد” لإسلامي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق