”لا ينبغي أن نخشى أو أن نقلق من تفجر حرب تقليدية بين الولايات المتحدة والصين، أو بين الأولى وروسيا: لقد تركت قيادات هذه الدول المتطورة حروب سفك الدماء والدمار للدول الأصغر والأدنى تطورا والأدنى خبرة بآثار الحروب، علما أنه لم تعد معامل إنتاج الأسلحة تدور عجلاتها، إلا لأسواق هذه الدول التي لا ينضب نهمها ولا تعطشها لابتياع الأسلحة والأعتدة قط.”
عندما قال عميد الدبلوماسية العالمية، جروميكو، وزير خارجية الاتحاد السوفييتي السابق بأن “عصر الحروب قد انقضى”، فإنه، ربما، كان يعني أن عصر حروب سفك الدماء والخراب في العالم الغربي لم تعد ممكنة التفجر، نظرا لما أوتيت به قيادات هذه الدول المتطورة من خبرات حربين عالميتين طاحنتين، ومما دفعته أثمانا باهظة لمثل هذه الحروب الشاملة.
لهذه الأسباب، لا ينبغي أن نخشى أو أن نقلق من تفجر حرب تقليدية بين الولايات المتحدة والصين، أو بين الأولى وروسيا: لقد تركت قيادات هذه الدول المتطورة حروب سفك الدماء والدمار للدول الأصغر والأدنى تطورا والأدنى خبرة بآثار الحروب، علما أنه لم تعد معامل إنتاج الأسلحة تدور عجلاتها إلا لأسواق هذه الدول التي لا ينضب نهمها ولا تعطشها لابتياع الأسلحة والأعتدة قط.
للمرء أن يلاحظ ذلك وهو يتابع التصعيد “اللفظي” بين واشنطن وبكين، من ناحية؛ وبين الأولى وموسكو من ناحية أخرى. قادة هذه الدول، التي سبق أن تذوقت مرارة الحروب وتجرعت سمومها، لا يفوتوا فرصة للحوار، ولا للمباحثات من أجل هدف نهائي، وهو تجنب الصدام العسكري: وعلى عكس دولنا في آسيا وإفريقيا لا يمكن ان تمر سنة دون تفجر حرب لا تبقي ولا تذر، أو تواصل حرب سابقى حتى كسر الأرقام القياسية من ناحية الزمن. ولا ريب، بأن أشهرها كانت الحرب العراقية الإيرانية التي دامت ثماني سنوات عجاف، دفع العراقيون والإيرانيون ثمنها حوالي نصف مليون إنسان، بلا جدوى حقيقية وملموسة، للأسف.
ومن منظور آخر، فقد أعلن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بأنه سوف يفرض “تعريفات” (ضرائب استيراد) عالية على المستوردات الصينية في سبيل كبح غزوها للسوق الأميركية: هو قد رمى “قنبلة صوتية” فقط، بهدف “جس نبض” الحكومة الصينية وردودها. أما الأخيرة فإنها لم تهدد بإطلاق صواريخ نووية على الولايات المتحدة، ولم تجرؤ على تجاوز “بديهية جروميكو” المذكورة أعلاه. هي قالت بأنها لن تتأخر في الإقدام على المعاملة بالمثل، إذ إنها ستفرض ضرائب عالية على المستوردات الأميركية (كاللحوم وفول الصويا والسيارات، من بين مستوردات أخرى). حتى هذه اللحظة، لم تزل المنازلة لفظية فقط، أما تطبيل وتزمير الإعلام باندلاع حرب تجارية، فإنه مضحك بحق، ذلك أن تهديدات الدولتين بقيت حبيسة الإعلام، حبرا على ورق حسب؛ فلا واشنطن، ولا بكين أصدرت التعليمات للسلطات المالية أو لسلطات الحدود بفرض الضرائب التي دعا ترامب إليها. ولعمري، فإن نقطة الصفر في هذا النوع من “حروب الكبار” إنما لن تزيد على اتفاق على موعد لاجتماع ممثلي الحكومتين لتفكيك الأزمة من أجل تجنب “حرب التعريفات”. لنقارن الآن بين الحرب العراقية الإيرانية أعلاه، وبين الحرب التجارية التي يخشاها شعبا البلدين الأميركي والصيني! هي مقارنة تدعو للتندر، أليس كذلك؟ هم سيجتمعون ويحلون الأزمة لخدمة مصالح شعبيهما، على عكس ما جرى في الشقيقة سوريا التي حولتها المصالح الدولية المتصادمة إلى فجوة لا تردم من أجل ابتلاع للأسلحة والذخائر المستوردة من الصين وأميركا، من بين سواها من الدول الكبرى.
لذا، أزعم بأن المعنى النهائي لتحليلي أعلاه، هو: نظرا لتحاشي الكبار أية حرب، وبأي ثمن، فإنها تحاول إعطاء حروب الدم والدمار فرص، ليس على أراضيها أو على حساب شعوبها ومستقبلها، وإنما على أراضي ومصالح شعوب الدول الأدنى حجما. وبهذا، بدلا من أن تصطدم واشنطن بموسكو؛ أو بكين بواشنطن، لماذا لا يفكرا “باستخدام” المغفلين في دول العالم النائمة في حروب بالوكالة Proxy war، كي يمتصوا فوائض الغضب والضغائن، عبر تجيير الحروب إلى وكلائهم في دول العالم الثالث. وهكذا تتفجر الحروب الدموية “بالنيابة”، وليس “بالأصالة”!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق