”إن “علم اللهجات”، الذي طوره فقهاء اللغة الأميركيون منذ سنوات، لا ينبغي أن يمر علينا، نحن العرب، بلا ملاحظة كافية، خاصة وأننا نعاني كذلك من ذات “التشرذم اللغوي” المتمثل في تنوع اللهجات واختلافاتها درجة إخفاق متكلم العربية السوري في فهم لهجة أخيه اليمني، وفشل الأخير في إدراك ما يريده متكلم العربية المغاربي، على سبيل المثال لا الحصر.”
أ
لست أزعم بأن هناك من فقهاء اللغة الأميركيين من هو منكب على تنمية وتطوير لغة “أميركية” تختلف عن أصلها الإنجليزي، كما يذهب بعض اللغويين المبالغين. بيد أن لي أن أزعم بأن لغة أميركية ذات شخصية متميزة، بنية ونظاما صوتيا ونحويا، إنما تتشكل الآن على نحو بطيء ولكن متواصل، نظرا لمتغيرات البيئة والثقافة وأجناس مستعملي ما يمكن أن نطلق عليه “الإنجليزية الأميركية”، بمعنى تلك الصيغة من اللغة الإنجليزية المستعملة في الولايات المتحدة، والتي يخصها الإنجليز بنظرة دونية، لأنها راحت تبتعد كثيرا عما يسمى بـ”لغة أوكسفورد أو لغة كامبردج”.
إن ما طرأ على الإنجليزية في الولايات المتحدة ينبع من أسباب متعددة ومتنوعة، ومنها اختلاف البيئة وتنوع الأجناس التي اكتسبت واستخدمت الإنجليزية هناك بسبب اتساع الهجرة، أو بالأحرى بسبب تشكل الشعب الأميركي برمته من المهاجرين القادمين من كل حدب وصوب، أي من كافة القارات، محملين بثقافات ولغات ولهجات أصلية شديدة التنوع، درجة أنك تلاحظ ألفاظا تختلف، وقعا سماعيا، من شخص لآخر، ومن مكان لآخر، بل تبرز هذه الظاهرة المربكة حتى في نشرات الأخبار التي تبث من قبل كبريات الفضائيات هناك!
ربما كان هذا التنوع اللفظي والنحوي قد كمن وراء ابتكار فقهاء اللغة الأميركان لفرع جديد من فروع علم اللغة، ألا وهو “علم اللهجات” dialectology ، تأسيسا على شعورهم المتواصل بأن الإنجليزية المحلية المستخدمة في ولايات إنجلترا الجديدة New England شمالا تختلف بالمرة عن تلك المستخدمة في الولايات الجنوبية كأريزونا وتكساس وفلوريدا، من بين سواها.
وإذا كان هؤلاء الفقهاء قد لاحظوا هذا، مبررين، فإنهم ما زالوا في طور رصد وبحث مسببات الاختلاف اللهجوي وتنوعه. وهذا، بطبيعة الحال، موضوع شديد التعقيد، نظرا لأعماقه وآثاره الثقافية والسكانية المهمة في تنمية الاختلاف: فالإنجليزية التي يستخدمها أساتذة الجامعة تختلف تماما عن تلك التي يستخدمها العاملون في الفنون، كالسينما والموسيقى، ليس فقط في الألفاظ والبنى النحوية، بل في جوانب أخرى كذلك، جوانب تستحق الدراسة والتحليل، بطبيعة الحال. ومن ناحية أخرى، لا يمكن لمن يحيا تجربة الحياة في أميركا أن يفلت من التسليم بحقيقة مفادها أن الإنجليزية التي يستخدمها الأميركان السود تختلف كذلك عن تلك التي تستخدم بين السكان البيض الذين يخصون الفئة الأولى بنظرة دونية. زد على ذلك كله، ما لوحظ من تنوع لهجوي بين لهجة ومفردات سكان المدن وسكان الريف، درجة إمكانية التمييز بينهم بمجرد سماعهم يتكلمون!
إن “علم اللهجات”، الذي طوره فقهاء اللغة الأميركيون منذ سنوات، لا ينبغي أن يمر علينا، نحن العرب، بلا ملاحظة كافية، خاصة وأننا نعاني كذلك من ذات “التشرذم اللغوي” المتمثل في تنوع اللهجات واختلافاتها درجة إخفاق متكلم العربية السوري في فهم لهجة أخيه اليمني، وفشل الأخير في إدراك ما يريده متكلم العربية المغاربي، على سبيل المثال لا الحصر. وفي هذه الظاهرة ما يهدد وجود اللغة العربية الموجودة، العزيزة علينا جميعا. ملاحظتي هذه إنما تشكل دعوة لفقهاء اللغة العربية، والمختصين بها في المجامع العلمية ومجامع اللغة العربية في القاهرة وبغداد ودمشق وسواها للاضطلاع بعمل مناسب لحماية اللغة العربية من الذي تفرضه العاميات اللهجات والذي قد يتطور يوما إلى إخفاق قنوات الاتصال بين إنسان عربي في المشرق وإنسان عربي آخر عربي في المغرب: فهلموا بنا إلى الاضطلاع بهذا الجهد العلمي المهم للغاية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق