أ.د. محمد الدعمي
”بعد انتشار القراءة والكتابة وإتاحة المطبوع والمقروء بشكل أكثر ديمقراطية، حاول بعض المثقفين العرب “دمقرطة الثقافة” عن طريق عقد الحوارات وإجراء المناقشات في الأماكن العامة، دون اعتراض على من وما يسمع من هذه الأنشطة. ولكن جهود إشاعة الثقافة هذه لم تدم طويلاً؛ فسرعان ما انتقل هؤلاء “المثقفين” إلى الحانة، بديلاً عن المقهى…”
ــــــــــــــــــــــــــ
إنه لمن السذاجة بمكان أن يشيع الانطباع الخاطئ فيما يمكن أن نطلق عليه تعبير “مقهى المثقفين”، ذلك أن المقاهي القديمة التي يكسوها غبار الزمن لا تصلح كبيئة موائمة لصناعة الأفكار الكبيرة، كما يعتقد الكثيرون في بلداننا العربية، خطأً. الأفكار الإبداعية لا تخرج من اية بيئة جمعية، ربما باستثناء المكتبة الجامعية أو الصف الدراسي، حيث تتفاعل الأفكار بين اقطاب ذهنية متنوعة لتوحي للعقول الذكية بالمستنير من الكشوفات الفكرية.
بلى، يمكن أن تلتقي لبرهة مع زملاء من المثقفين على فنجان قهوة أو شاي وبشكل عابر، ولكن لا يمكن أن تزعم بأن مقهى مثل “حسن عجمي” أو “البرلمان” أو “الشابندر” في بغداد؛ وسواها من مقاهي القاهرة وبيروت ودمشق قد خرّجت مثقفين مبرزين. لهذا المفهوم الخاطئ والشائع جذور قديمة تعود لمرحلة شيوع الثقافة اليسارية في عالمنا العربي أواسط القرن الماضي، إثر إطلاع أعداد لا بأس بها من المثقفين آنذاك على أفكار “الواقعية الاشتراكية” المصدرة إلينا من أوروبا. ولا يدري المرء كيف ارتبطت الواقعية الاشتراكية بأجواء المقاهي المزدحمة والخانقة التي تسودها غيوم دخان السجائر واللفائف مذاك حتى اليوم، درجة أن من يتشبث بلقب “مثقف” يعمد إلى ارتداء معطف يظهر من جيبه رأس قلم حبر نوع باركر أو شيفرز، كناية عن التوثب للثقافة وللرفيع من الأفكار، على عكس الهابط منها، أي ذلك الذي يشيع على بعد قدمين فقط من باب المقهى في الشارع الشعبي العام. ربما كمن هذا وراء المفاهيم الخاطئة التي أشاعت تعابير من نمط “رأي الشارع” في هذا الموضوع وذاك، عبر وسائل الإعلام العربية عامة.
بيد أن ما أذهب اليه في أعلاه لا يمكن قط أن يفهم بأنه دعوة إلى ما يمكن أن نطلق عليه تعبير “ثقافة الصالون”، تلك الثقافة الأرستقراطية التي تنأى بنفسها عن الجمهور، الهدف النهائي لكل نشاط ثقافي تنويري.
الظاهرتان أعلاه تكمنان على حكاية طريفة لتطور الثقافة العربية الحديثة: فقد بدأت هذه الثقافة في الصالونات الراقية، نظراً لأنها ارتكنت إلى الترجمة والتعريب، وهما من أنشطة النخب الغنية التي اعتادت إتاحة فرص تعلم اللغات الأوروبية لأبنائها. وهكذا كانت نافذة الإطلاع على الثقافة الأوروبية تمر من خلال رأس المال، الأمر الذي حددها في دواخل صالونات الأرستقراطيين القادرين على ابتياع الأغذية الفكرية، إضافة على الجسدية. أما الفقراء، فلهم الله وأقداح الشاي غير النظيفة التي يقدمها سقاة المقاهي عبر الحارات الشعبية.
ولكن في مراحل تالية، بعد انتشار القراءة والكتابة وإتاحة المطبوع والمقروء بشكل أكثر ديمقراطية، حاول بعض المثقفين العرب “دمقرطة الثقافة” عن طريق عقد الحوارات وإجراء المناقشات في الأماكن العامة، دون اعتراض على من وما يسمع من هذه الأنشطة. ولكن جهود إشاعة الثقافة هذه لم تدم طويلاً؛ فسرعان ما انتقل هؤلاء “المثقفين” إلى الحانة، بديلاً عن المقهى: فهناك تتوافر المنشطات السائلة التي تعب لتوليد المناقشات، بل وحتى المشاجرات، إذ تستحيل الحانة بعد فترة نقاش ساخنة إلى ساحة حرب، فتتطاير الكراسي والصحون جواً، حتى ينتهي الأمر في مراكز الشرطة أو في المستشفيات.
وإذا كانت لندن قد شهدت المقهى مكاناً لرجال ثقافة أفذاذ مثل صاموئيل جونسون Samuel Johnson، فإن هذا حدث في القرنين السابع عشر والثامن عشر عندما كانت لندن بلدة صغيرة لا يتجاوز حجمها بلدة الكاظمية القديمة ببغداد. هذه الحال لا يمكن أن تفرز نمطاً ينبغي أن يتشبث به المثقفون في العالم العربي الآن، خاصة بعد أن أتاحت المكتبات الجامعية والعامة ومقاهي الإنترنت ما لا حد له من فضاءات سياحات الفكر المستنير بين اليابان وأميركا، أفريقيا والشرق الأوسط.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق