الجمعة، 15 مايو 2015

إسهامات “الطائفة الموسوية” في الثقافة العراقية ، بقلم البروفيسور محمد الدعمي



أ.د. محمد الدعمي
على الرغم من نشري لبضعة مقالات في (الوطن) الغراء عن الأقلية اليهودية في العراق، فقد أطلق الأستاذ مايكل أولبن Michael Albin ، المتخصص في الشؤون العراقية، تيار الوعي الاسترجاعي في دواخلي حول هذا الموضوع الطريف الذي تكمن أهميته على آصرة قوية بتاريخ الثقافة العراقية. وبتشجيع من الصديق الأستاذ موريس شوحيط Shohet وزوجته الفاضلة، فقد جرف التيار أعلاه ذاكرتي إلى دوري في أعمال ما سمي آنذاك بـ”لجنة توثيق تاريخ بيت الحكمة البغدادي” التي انبثقت عن “بيت الحكمة” الحديث الذي تأسس في تسعينيات القرن المنصرم والذي شرفني بعضوية فريق الترجمة فيه، برئاسة الأستاذ الراحل الدكتور سلمان الواسطي.
لجنة توثيق تاريخ بيت الحكمة العباسي، أي البيت العباسي الأصلي تشكلت بأوامر من رئيس مجلس أمناء بيت الحكمة الحديث، بعضوية عدد من أساتذة التاريخ، كان منهم الأستاذ الدكتور الراحل بهجت التكريتي، رحمة الله على روحه، والأستاذ الدكتور علي الجابري (فلسفة)، رحمة الله على روحه، وأستاذ تاريخ جامعي آخر أذكر أن اسمه “عبدالحسين”، من بين آخرين. وقد انطلق عملنا حثيثًا على التنقيب في المنسي من الآثار الفكرية والإشارات العابرة إلى بدايات تأسيس بيت الحكمة البغدادي الذي ازدهر على عصر الخليفة العباسي المأمون. وكانت مهمة إماطة اللثام عن أسماء المعربين والمترجمين الذين خدموا عمودًا فقريًّا لهذا البيت المهم للغاية، هي المهمة الأبرز، الأمر الذي قادنا إلى عدة خلاصات مهمة للغاية بقدر تعلق الأمر بتاريخ ثقافتنا ودورها، حلقة وصل، بين العصرين القديم والحديث، وبالمهمة التي أناطتها مؤسسة الخلافة العباسية بالبيت، ومن أهم هذه الخلاصات هي أن أبرز الذين أسهموا بتعريب كنوز الفكر والفلسفة والطب والعلوم التطبيقية الأجنبية الأخرى، لم يكونوا من العرب أو المسلمين عامة. لقد كان أبرزهم من أتباع الأقليات الدينية والعرقية التي فرضت عليهم، منذ نعومة أظفارهم تعلم لغاتهم الأم قبل تعلم وإتقان اللغة الرئيسية الشائعة عالميًّا، أي اللغة العربية. لذا كان جُل هؤلاء ينتمون إلى الأقليات الآشورية والكلدانية والكردية والعبرانية والمندائية. وهم لم يبخلوا جميعًا بتزويد هذه المؤسسة الثقافية والاستخبارية الخطيرة بأهم ما قدمته وما خدمت به دورة الثقافة العالمية عن طريق تزويد رأس الخلافة ومعيته بما كانوا بحاجة إليه من معلومات الأمم المهمة الأخرى، إذ كانت بغداد، كما هي “نيويورك” اليوم، مدينة كونية الأهمية cosmopolitan يقصدها العلماء والصنعة والفنانون من كل أطراف العالم القديم، من الصين إلى الأندلس.
وقد وجد عدد من أساطين الطائفة الموسوية بهذا البيت ضالتهم حقبة ذاك، فنقلوا إلى العربية شيئًا من علوم وتراث العبريين، مسدين للثقافة العربية خدمات جلى لا تقدر بثمن. زد على هذا الدور في العصر الوسيط، ما قدمه أقران عبريون لهم في الثقافة والطب والكيمياء والهندسة والتجارة والصيرفة وسواها من العلوم والأنشطة الأخرى. ربما كانت فرضيتي التي طرحتها على صفحات (الوطن) الغراء قبل بضعة أشهر عن إمكانية أن يكون “أبو نؤاس” من الشعراء اليهود، شأنه شأن شاعر العصر الجاهلي الكبير، “السموأل” الذي لم يترك للأدب العربي سوى قصيدة حكمة واحدة، فوصف بأنه “من أصحاب الواحدة”.
أما في الثقافة العراقية في العصر الوسيط، وعلى الرغم من التشويه والتكتم وخلط الحقائق، لا يمكن لمؤرخ الأفكار إلا أن يعترف بفضل الكتّاب اليهود، العراقيين خاصة، في إطلاق فنون الأدب الحديث المستوحاة من الآداب الأوروبية، كالقصة والمسرحية، من بين سواهما من أجناس الأدب الأساس: ناهيك عن إسهاماتهم الجلى في الفنون الموسيقية والطرب والمقام العراقي، وقد كان المرحوم صالح الكويتي مؤسسًا لمدرسة ألحان عراقية متميزة، من العيار الثقيل الذي أنتج “خدري الشاي، خدري” و”على شواطي دجلة مر”، من بين سواها من الألحان الخالدة في الذاكرة العراقية والعربية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق