الجمعة، 16 فبراير 2018

الثقافة العربية الإسلامية على المحك بقلم : أ.د. محمد الدعمي



”… هناك من المفكرين، أي هؤلاء الذين ذهبوا إلى منح الثقافة قيمة توثيقية تاريخية، باعتبار أن النتاج الثقافي يشكل أنقى وأدق المرايا التي تعكس تفاصيل تاريخ حقبة ما من خلال ما تكتبه الأقلام الأكثر حساسية، والأكثر استجابة لمعطيات العصور المختلفة، لذا جعل هؤلاء يقرأون الشعر الأموي، مثلا كتاريخ بوصفه وثيقة تاريخية واجتماعية تعكس أحوال العرب في ذلك العصر”.
إن بحث المثقفين المؤرق عن أساس صلد للتيقن، إنما هو واحد من أهم الظواهر الثقافية والسياسية اليوم عبر العالم. لذا يشكل “دور الثقافة” علامة مهمة تتموضع على رأس قائمة طويلة حول ما ينبغي للمثقفين وللسياسيين في العالم العربي مباشرته ومناقشته من أجل أن تتمكن هذه النخبة من كنه خصائص دورهم الاجتماعي، وتحديد وظيفتهم السياسية والاجتماعية التي قد لا تتواشج مع تطلعات الإدارة الحكومية بقدر ما تلتئم مع ما يمكن أن يضطلع به المثقفون من مهام خطيرة عبر دورهم في تشكيل الرأي العام والتأثير على مساراته.
وإذا كانت الرؤى حول هذا الموضوع الشائك متنوعة ومختلفة بين مثقفينا، كنخبة، بقدر تعلق الأمر بدور الثقافة، فإن علينا الارتداد إلى أصول جدل الفيلسوف “هوراس” الذي كان أول من أسس لفكرة أن تضطلع الثقافة بوظيفتين، الأولى براجماتية نافعة، والثانية ممتعة للتسلية، بمعنى مشحونة بالدروس، ولكن في آنية ممتعة في ذات الوقت. لذا ترجم بعض المنظرين المحدثين هذه الجدلية عبر استخدام تعبير “الحبوب المغطاة بالسكر”، كناية عن ضرورة كون الثقافة علاجا مقبول الطعم، أي أشبه ما تكون بحبوب الدواء المر التي تطلى بطبقة من السكر: لذا ذهب العديد من مؤرخي الثقافة إلى التعويل على الثقافة لأداء أدوار متعددة، ما دامت الدور النفعي متاحا، إذ عد بعضهم الثقافة كعصارة لخبرات وتجارب أذكى العقول في تاريخ العالم، الأمر الذي يجعلها بديلا عن التجارب التي مرت بها هذه العقول الذكية من إرهاصات ومعاناة وتأملات عبر تاريخ نوعنا الآدمي. هنا تكون الثقافة اختزالا رائعا ومكثفا للتجربة العبقرية البشرية عبر التاريخ، بوصفها ذاكرة (أو خبرات متراكمة) من خلاصات الأذهان المتوقدة وليس الأذهان العادية التي لم تترك اسما في سجل السرد التاريخي الآدمي.
كما أن هناك من المفكرين، أي هؤلاء الذين ذهبوا إلى منح الثقافة قيمة توثيقية تاريخية، باعتبار أن النتاج الثقافي يشكل أنقى وأدق المرايا التي تعكس تفاصيل تاريخ حقبة ما من خلال ما تكتبه الأقلام الأكثر حساسية، والأكثر استجابة لمعطيات العصور المختلفة، لذا جعل هؤلاء يقرأون الشعر الأموي، مثلا كتاريخ بوصفه وثيقة تاريخية واجتماعية تعكس أحوال العرب في ذلك العصر الذي لم يترك لنا وثائقا رسمية مدونة أو تواريخ تكفي لتورخة حياته الاجتماعية وصراعاته السياسية قبل ظهور الإسلام. بينما، عدّ فريق آخر من المفكرين الثقافة بديلا للسفر وللارتحال، فعوضا عن أن تتجشم مشاق السفر إلى مجاهل إفريقيا أو جزر جنوب المحيط الهادي لتحيا بين القبائل البدائية وتعايش سكانها من أكلة لحوم البشر، متحملا مخاطر الانغماس بمثل هذا الإناء البشري والطبيعي الخطير، يمكنك أن تقرأ كتاب رحلات حول هذه المناطق والقبائل البدائية، كتجربة بديلة عن التجربة المباشرة.
زيادة على هذه الأفكار والمداخل المختلفة لموضوع أدوار الثقافة، تبلورت نظريتان لهما أهميتهما القصوى بالنسبة للوضع الراهن للثقافة العربية اليوم: فكالعادة، جرى التمييز بين الوظيفة الترويحية للثقافة من ناحية، وبين الوظيفة الموجهة لها. الفرق بين الوظيفتين كبير لا ريب: ففي الوقت الذي تعد فيه الثقافة أداة للترويح ولحصاد ملذات التجربة الإنسانية، بمعاناتها عبر الاطلاع والقراءة والاستماع، ذهب بعض المفكرين إلى ضرورة اضطلاع المثقف بدور اجتماعي وسياسي تقويمي ممتطيا العمل الإبداعي الذي يقدمه. وبذلك ظهرت فكرة المثقف ناشطا اجتماعيا أو سياسيا، بمعنى: المثقف “الملتزم” الذي يكتب وينشر كتابا أو قصيدة أو رواية كي يضطلع، على نحو ملتوٍ، بتقديم منظوره ورؤيته في الحياة لجمهور واسع من مستهلكي المادة الثقافية. الجهد يصب، بطبيعة الحال وعلى نحو تلقائي، في عملية كسب القارئ للتوافق والاتفاق مع منظور ورؤية الكاتب للحياة، بحسب الموضوع المطروح سياسيا كان أم اجتماعيا. وبذلك يمكن للمرء طرح السؤال المهم: هل أن المثقف هو “رجل دعاية”؟ بمعنى أنه عندما يؤلف ويكتب فإنه يضطلع بنشاط دعائي لا واعٍ لعقيدته في الحياة؟ لاحظ أهمية وخطورة دور المثقف، متأرجحا بين قيم الجمال والمجتمع.
وفي ذات الوقت ذهب العديد من مؤرخي الأفكار مع الرأي أعلاه ثانية باعتبار أن رجل الثقافة، في جوهره، هو “رجل دعاية”، لا واعٍ: فلماذا يضطلع بالكتابة والنشر لو أنه لم يشعر بأن تجربته وما تمخض عنها من أفكار وآراء تستحق العرض على الآخرين من القرّاء بقصد كسبهم إلى جانبه. بيد أن مؤرخي الأفكار والنقاد يلاحظون أن عملية الشد والإقناع، الملتوية أو غير المباشرة، التي يقوم بها المثقف ويفرضها على القارئ، إنما هي عملية قد لا تكون مقصودة أو مقصودة ولكنها تفعل فعلها على القارئ عبر عملية أشبه ما تكون بالتنويم المغناطيسي، لأن القارئ إذا ما اتفق وأعجب برؤية المثقف المسطورة في مقالته أو كتابه أو قصيدته إنما يجد نفسه مستدرجا إلى احتضانها والإيمان بها بطريقة تدريجية لا واعية. لذا يدعي هؤلاء المؤرخون والنقاد أن المثقف هو “دعائي” ولكنه غير مسؤول، بمعنى أن رؤيته لموضوع ما، إذا ما تركت أثرا عميقا في نفوس القراء، لا يمكن أن تفرض عليه شيئا من المسؤولية أمام القانون. لذا لا يمكن لأحد أن يرفع شكوى للمحاكم ضد “البير كامو” لأنه كان قد أقنعه أن يؤمن بعبثية الوجود؛ وعلى نفس المبدأ، لا يمكن لشخص أن يرفع دعوى ضد “كارل ماركس” لأن كتاب (رأس المال) قد أقنعته بأن يحتضن الاشتراكية.
تمثل هذه المداخلات نماذج بعيدة المنال بضمن المهاد الثقافي العربي اليوم، إلا أنها مهمة للغاية حسبما أرى، خاصة مع توافر ودمقرطة الثقافة بعدما كانت في أواسط القرن الماضي حبيسة الكتاب المطبوع والحرف المكتوب. تبث الثقافة اليوم على تنوع مشاربها وأفكارها وعقائدها، عبر الأثير وفي الفضائيات ومن خلال الشبكات الرقمية: هي لا تدق أبواب منازل أولياء أمورنا في العالم العربي للاستئذان، ولا تطلب ترخيصا من حكومة أو وزارة ثقافة أو رب أسرة، فهي تخترق جدران البيت العربي القديم لتتخلله نحو الشبيبة والنشء، مروجة لأفكار جديدة ورؤى غريبة، لا عهد لنا سابقا بها. كما أن هذه “الثقافات” والتيارات الشائعة لا تفرق بين ذكر أو أنثى، غني أو فقير، أسود وأبيض، لأنها “ثقافات معولمة” وعابرة للقارات، متجاوزة الثقافات المتقوقعة العتيقة.
من هنا يكون السؤال الأكثر فورية للوضع الراهن، هو: هل نستكين ونرضخ بوضع المستلم السلبي الذي لا يفعل شيئا حيال الثقافات الطارئة القادمة من كل مكان؟ أم أن علينا أن نتمسك بالوظيفة التعليمية والتوجيهية البنّاءة لثقافة مستنيرة قادرة على النزول إلى حلبة ومعترك الثقافات المعولمة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق