الخميس، 22 فبراير 2018

حفلات الإعدام العشوائي في أميركا بقلم : أ.د. محمد الدعمي






”إن مراجعة سريعة لسير حياة منفذي فتح النار العشوائي لا يمكن أن تخفق قط في إماطة اللثام عن حجم وكتلة الغضب الذي يدفع هؤلاء المجرمين إلى فقدان الحس بالمشاعر الإنسانية وبأحقية الآخرين في الوجود والبقاء. هذا الغضب والسخط عاملان يشترك بهما جميع القتلة من هذا الصنف.”
عليك أن تحتاط وتحذر أن تفتح عليك وعلى سواك النار في أية لحظة، وبأي مكان عام عبر الولايات المتحدة الأميركية: فلم تعد حالات القتل العشوائي بالبنادق الأوتوماتيكية الثقيلة من معطيات الصدف وسوء الطالع، بدليل تزايد حمامات الدم العشوائية على نحو مخيف ومفرط في الأسواق الكبرى والمدارس والجامعات والنوادي ودور العبادة ودور السينما، بل وحتى عندما تقود سيارتك على أحد الطرق السريعة عبر، وبين المدن الكبرى!
وقد كانت حادثة يوم الأربعاء (14 فبراير، 2018) ناقوس خطر دق أبواب جميع الأسر الأميركية، من الرئيس، دونالد ترامب، شخصيا وأعضاء الكونجرس والأجهزة الأمنية، إلى المتسكعين والمشردين الذين يقضون لياليهم على الأرصفة وفي المحطات والمتنزهات العامة!
إن مراجعة سريعة لسيّر حياة منفذي فتح النار العشوائي لا يمكن أن تخفق قط في إماطة اللثام عن حجم وكتلة الغضب الذي يدفع هؤلاء المجرمين إلى فقدان الحس بالمشاعر الإنسانية وبأحقية الآخرين في الوجود والبقاء. هذا الغضب والسخط عاملان يشترك بهما جميع القتلة من هذا الصنف، علما أنه غضب يرتكن (في أغلب الحالات) إلى الاحتجاج الاجتماعي، وإلى الشعور بالظلم وبالتمييز الطبقي والعرقي والديني، ناهيك عن دافع الرغبة في إطلاق “صيحة” احتجاج واستنكار لكامل النظام هناك؛ وهي صيحة غالبا ما تذهب هدرا مع الريح دون أن تسمع من قبل فئات واسعة من الجمهور الأميركي. ويرد ذلك إلى ما تفعله السلطات وأجهزة الأمن من إجراءات حاسمة وفورية ومحكمة لمنع أي تسرب احتجاجي أو شكوى من كامل النظام هناك. لذا، يقتل منفذ هذا النوع من الأفعال التخريبية والإرهابية، أو أنه يودع زنزانة محكمة، لا تطل على العالم الخارجي، كي لا يسمح بتمرير الرسالة الاحتجاجية التي أراد هو إيصالها للجمهور من وراء فعلته الإجرامية.
أما في الحالة أعلاه، فقد قتل شاب (19 سنة) سبعة عشر إنسانا من طلاب مدرسة ثانوية مع بعض ومدرسيهم بذات طريقة “لا على التعيين” التي وظفها قاتل عشوائي آخر قام بالرمي على جمهور غفير في حديقة مجارورة للغرفة التي استأجرها في فندق خمسة نجوم بمدينة (لاس فيجاس) قبل بضعة أشهر: مات القاتل، ولم تزل الأجهزة الأمنية تحاول فك لغز دوافع وإرهاصات هذا الرجل الذي قتل ما لا يقل عن خمسة وخمسين فردا من شباك غرفته على نحو اعتباطي. إلا أن صوت الاحتجاج الاجتماعي لا يمكن أن يكتم دائما، ذلك أنه سرعان ما يتسرب على سبيل إدانة ما تعرض له المجرم من ظلم وتمييز وجور! القاتل في المجمع المدرسي أعلاه بفلوريدا، كان يعاني من عدة مشاكل اجتماعية ونفسية عصية على الليّ، بدليل عدم امتلاكه لدار تأويه، ومفارقته لوالديه بعد وفاتهما. وبدلا من أن تعتني إدارة المدرسة به وتعاونه على تجاوز صعوباته، قامت إدارتها بفصله من الدراسة العام الماضي، متناسية أو متجاوزة حجم الغضب الذي أضافته نفس هذا الشاب، وهو يرى زملاء السنة الماضية يتقدمون في مراحل دراستهم صفا فصف، بينما يبقى هو يراوح في مكانه: ربما كانت له صديقة من بين هؤلاء الموجودين في الصفوف الدراسية، وربما هو كان يسعى لإطلاق صيحة غضب ضد الظلم الذي لف حياته درجة تفضيله القتل الجماعي العشوائي والذهاب الى السجن، على البقاء طليقا، حرا، ولكن دون أمل ودون ما يسد حاجاته الطبيعية، شابا يافعا.
وهكذا سيودع هذا القاتل العشوائي السجن مع أسرار دوافع وإرهاصات جريمته دون السماح لصوته أن يصل إلى العامة، بينما سيبقى المسؤولون في الإدارة الأميركية والإدارات المحلية يبذلون أقصى جهودهم لمنع وللجم أية محاولة أخرى من هذا النوع، ولكن دون القدرة على تأشير حقائق الدوافع الكامنة وراء القاتل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق