هذا يعني أن الأجيال القادمة، إذا ما استمرت بممارسة هذا الشكل من الظلم، ستدخل الحروب لأسباب من نوع جديد: فبدلا من الحرب من أجل مصادر المياه أو النفط اليوم كما هي الحال الآن، سنشهد حروبا من أجل الثروة الناعمة، أي من أجل السبايا! وقد واجه العالم حالات مطابقة حتى في تاريخه الحديث، حيث تناقصت أعداد الذكور بشكل مخيف في أوروبا بعد الحربين العالميتين اللتين شهدهما القرن الماضي في أوروبا..
تتزايد ظاهرة الاستخدام السالب للعلم والتكنولوجيا في العصر الحديث يوما بعد آخر. وقد تجلى هذا النوع “العصري” من التوظيفات السلبية في التقارير العلمية المتتالية التي تحدثت عن عمليات إسقاط الإناث، إجهاضا، وهن أجنة في بطون أمهاتهن، تلك العملية الشائعة في بلدان عديدة، ومنها الهند والصين وبنجلاديش وسواها من دول جنوب شرق آسيا، بلدان الفوائض السكانية. بيد أن على المرء، إن أراد أن يكون منصفا، أن يزيد على هذه القائمة العديد من المجتمعات الأخرى، غير الهندوسية أو البوذية أو الكونفشيوسية، التي تحتضن أديان التوحيد المنزلة والتي تظهر بها حالات وأد البنات الانتقائية بالإجهاض. بيد أن الفرق يكمن في أن هذه الحالات غير معلنة وغير متاحة لتداول وسائل الإعلام بسبب المحافظة والتكتم والخشية من الفضيحة، الأمر الذي يجعل إبراز الهند أو الصين أو تايلند، من بين دول آسيوية أخرى، أكثر يسرا على صفحات وسائل الإعلام وآنية التقارير السكانية.
لأن حالات جنوب شرق آسيا غدت واضحة كالشمس، معلنة ومتاحة، فلا ضير من رصدها بالدراسة والتحليل، ليس من أجل القضاء عليها (لأن العملية ليست بهذه البساطة، كما قد يعتقد البعض)، ولكن من أجل تبيان النتائج الخطيرة لظاهرة تكاثر الذكور على حساب جهض الإناث عن طريق توظيف الأشعة فوق الصوتية (السونار) للتعرف على جنس الجنين وهو لم يزل في أحشاء أمه، ثم التخلص منه بعملية القتل المتعمد، المعروفة “بالإجهاض”. التقارير مرعبة في المجتمعات المكشوفة أعلاه من ناحية هذه الممارسات اللاإنسانية: إذ يقول أحد المختصين إن خمسة ملايين أنثى يتم إسقاطهن سنويا في الهند سنويا، حيث يتزايد الذكور على نحو متوالية هندسية، بينما تتناقص أعداد الإناث على ذات النحو المرعب. وقد أرجع بعض المتابعين بروز هذه الظاهرة في مجتمعات كهذه إلى (1) أسباب دينية، بينما تتبعها آخرون إلى (2) أسباب اقتصادية. من منظور أول، يدعي البعض أن الأنثى في هذه المجتمعات تشكل عارا محتملا لشرف الأسرة، الأمر الذي يحيلها إلى عبء اعتباري ونفسي على الأقارب الذكور من الدرجة الأول، أي هؤلاء الذين يتفننون بإنزال أقسى العقوبات البدنية والنفسية بالبنات من أفراد العائلة. ومن منظور ثانٍ، يرى البعض الآخر أن الإناث يمثلن عبئا اقتصاديا على العائلة لأنهن لا يعملن؟ ولا يسهمن في تكوين وتوريد مصادر عيش العائلة، زيادة على أن مهمة تزويجهن في هذه المجتمعات إنما تشكل أكبر الأعباء حيث إن على عائلة البنت المرشحة للزواج أن تدفع المهر على عكس العادات المتبعة في العالم الإسلامي، مهيئة بذلك كل الأسباب الاقتصادية لبناء بيت الزوجية، من دار السكن إلى الأثاث والذهب وحتى السيارة، بينما يدخل الذكر بيت الزوجية، “ربي كما خلقتني”.
هذا هو ما يجري في هذه المجتمعات الآسيوية، ولكنه ليس تعميما مطلق الدقة، خاصة إذا ما تناولنا حال المجتمعات الهندية عن كثب، إذ يلاحظ المرء أن هذا الأمر لا ينطبق، بعد أن أنديرا غاندي كأقوى شخصية في هذا المجتمع الذكوري، وفي ذلك الزمن الذي كانت فيه جميع الولايات الهندية (كل ولاية أكبر من دولة مستقلة صغيرة في الشرق الأوسط) تحت حكم امرأة، ناهيك عن رموز وشواخص الديانة الهندوسية الأنثوية وهي كثيرة. لذا فإن المرأة في هذه المجتمعات لا تشكل عبئا اعتباريا أو أخلاقيا أو اقتصاديا دائما؛ بل على العكس من ذلك: فقد لوحظ في الهند وفي العديد من مجتمعاتنا الشرق أوسطية حالات تفوق المتوقع من نماذج النساء اللائي يشرفن بعض الذكور المتسيبين من “العاطلين” في المجتمع بأخلاقهن وسمو منزلتهن وأدوارهن الاجتماعية والاقتصادية. ثمة نماذج، لا تحتاج إلى جهد في التقصي والبحث كي تبرهن على أن هناك فئات اجتماعية مدنية وريفية، تكون فيها المرأة هي العاملة وهي المحاربة من أجل صيانة شرف وبقاء العائلة، بينما يكون ذكور هذه الفئات الاجتماعية عالات عاطلة لا تقدم ولا تؤخر. ويدل المشهد الريفي في جنوب شرق آسيا وحتى في بعض المجتمعات الشرق أوسطية المسلمة أن قوة العمل هي في جوهرها، قوة أنثوية ناعمة، بينما تكون فجوة الاستهلاك السكاني هي فجوة مذّكرة.
لا يدري المرء إلى أين ستقود ظاهرة القتل الانتقائي للأجنة المؤنثة، خاصة بقدر تعلق الأمر بالمشاكل الديموغرافية السكانية بعيدة المدى: فهل يمكن للمرء أن يتخيل عالما مكتظا بالرجال، ولكنهم رجال بلا نساء؟ إنها صورة جحيمية تذكّر المرء بصور “الأرض اليباب”، التي كتبها أليوت. هذا يعني أن الأجيال القادمة، إذا ما استمرت بممارسة هذا الشكل من الظلم، ستدخل الحروب لأسباب من نوع جديد: فبدلا من الحرب من أجل مصادر المياه أو النفط اليوم كما هي الحال الآن، سنشهد حروبا من أجل الثروة الناعمة، أي من أجل السبايا! وقد واجه العالم حالات مطابقة حتى في تاريخه الحديث، حيث تناقصت أعداد الذكور بشكل مخيف في أوروبا بعد الحربين العالميتين اللتين شهدهما القرن الماضي في أوروبا، الأمر الذي أدى إلى نتائج وخيمة بسبب اختلال التوازن الجنسي وآثاره. ويمكن أن تكون زيادات أعداد الإناث في الغرب وراء العديد من سجاياه السلمية والديمقراطية البائنة للعيان اليوم، حيث العناية بالجمال والرقة وبفنون السلام واحترام حقوق الإنسان، على عكس ما يجري في العديد من المجتمعات الشرقية من إساءة للجمال وحط للمرأة، لأنها مجتمعات تفضل فنون الحرب على فنون السلام. هي شعوب تحتفي بالعنف والإرهاب والقساوة، بديلا عن الاحتفاء بوسائل السعادة والترف.
إن الاحتفاء لدى بعض الهندوس بالحيض الأول للبنت، معاكسا لما يخجل منه العديدون في بعض المجتمعات الشرقية الأخرى ومنها إسلامية، بوصف الحالة شيئا معيبا ينبغي التغطية عليه وإحاطته بالكتمان. يدل هذا على أن هناك العديد من المجتمعات، غير تلك الموجودة جنوب شرق آسيا، التي تعاني من عقدة الأنوثة، متناسية حقائق تاريخية وتراثية تدل على تقاليد سوى هذه.
الظاهرة ليست آسيوية فقط، لأنها موجودة كذلك في بعض المجتمعات في إفريقيا والشرق الأوسط، بل وحتى في الغرب: وكأن الرجل يريد أن يكون انتقائيا فيما حباه الله به من نعم (أستغفر بالله)، الأولاد والبنات، فينطبق ذلك على ما يقال في الغرب: “إنه عالم رجال”، إنه فعلا عالم رجال إن لم تمنح المرأة ما تستحق من تكريم واحترام. وعودة إلى التراث والتاريخ، يذهب العديد من المؤرخين والآثاريين إلى أن المرأة كانت قديما تحاط بالقدسية والتقدير في المجتمعات القديمة التي سبقت ظهور الأديان المنزّلة، فتتضح هذه الحال في تراث عشتار وأفروديت وملكات مصر الفرعونية وسواها من رموز الجمال والخصب وعطاء الحياة في الآثار البابلية والكلدانية والإغريقية والرومية القديمة. كانت النظم والتقاليد الدينية حقبة ذاك تسمح للمرأة بارتقاء أعلى المنزلات، كي تكون الملكة والكاهنة والأم ورب الأسرة، رمزا للحنان والدفء والمحبة والصبر. لقد أدى هذا الاحترام الاجتماعي القديم للمرأة إلى المساعدة على انتشاء المجتمعات والتقدم الذي تحقق آنذاك. هذا وقد جاء الإسلام بمبادئ اجتماعية وروحية ترفع من شأن المرأة وتحفظ لها كرامتها، كأم وأخت، زوجة وابنة، على عكس بعض الممارسات المسيئة للإسلام التي يضطلع بها البع
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق