الخميس، 2 نوفمبر 2017

THEY ARE KILLING GIRLS إنهم يقتلون البنات بقلم : أ.د. محمد الدعمي




”ليس  من السهولة أن يدري المرء إلى أين ستقود ظاهرة القتل الانتقائي للأجنة المؤنثة، خاصة بقدر تعلق الأمر بالمشاكل الديموغرافية السكانية على المدى البعيد: فهل يمكن للمرء أن يتخيل عالما مكتظا بالرجال، ولكنهم رجال بلا نساء؟ إنها صورة واجمة تذكّر المرء بصور “الأرض اليباب”، قصيدة القرن العشرين الأكثر شهرة التي كتبها ت. س. إليوت.”
طالما ساءلت نفسي لماذا كانت ممارسة وأد البنات، وهل هي موجودة اليوم بين الأقوام التي لم تعتنق الإسلام؟ وقد تجلى هذا النوع “المستحدث” من “الجاهليات” في التقارير العلمية العديدة التي تحدثت عن أنواع عمليات إسقاط الإناث، وهن لم يزلن أجنة في بطون أمهاتهن، الشائعة في بلدان عديدة، ومنها الهند والصين وبنجلاديش وسواها من دول جنوب شرق آسيا. بيد أن على المرء، إذا ما أراد أن يكون منصفا، أن يزيد على هذه القائمة العديد من المجتمعات الأخرى، غير الهندوسية أو البوذية أو الكونفشيوسية، التي تحتضن الأديان المنزلة والتي تظهر بها حالات وأد البنات الانتقائي عن طريق الإجهاض. بيد أن الفرق يكمن في أن هذه الحالات غير معلنة وغير متاحة لوسائل الإعلام بسبب المحافظة والتكتم والخشية من الفضيحة، الأمر الذي يجعل من إبراز الهند أو الصين أو تايلند أكثر يسرا على أسطح وسائل الإعلام وآنية التقارير السكانية والصحية الرسمية.
ما دامت حالات دول جنوب شرق آسيا أعلاه قد غدت معلنة ومتاحة، فلا بأس من رصدها بالدراسة والتحليل، ليس من أجل القضاء عليها (لأن العملية ليست بهذه البساطة، كما قد يعتقد البعض )، ولكن من أجل تبيان النتائج الخطيرة لظاهرة تفضيل الذكور على الإناث عن طريق توظيف الأشعة فوق الصوتية (السونار) للتعرف على جنس الجنين والمسكين لم يزل في أحشاء أمه، ثم التخلص منه “بعملية القتل”، أي بالإجهاض. التقارير مرعبة بحق في المجتمعات المكشوفة من ناحية هذه الممارسات: إذ يقول أحد المختصين إن خمسة ملايين أنثى يتم إسقاطها سنويا في الهند، حيث يتزايد الذكور على نحو متوالية هندسية، بينما تتناقص أعداد الإناث على نفس النحو المرعب. وقد أرجع بعض المعلقين بروز الظاهرة في مجتمعات كهذه إلى جذور دينية، بينما تتبعها آخرون إلى جذور اقتصادية. من منظور أول، يدعي البعض أن الأنثى في هذه المجتمعات تشكل عارا محتملا لشرف الأسرة، الأمر الذي يحيلها إلى عبء اعتباري ونفسي على الأب الأسمر والأخ الأسمر القاسي اللذان يتفننان بإنزال أقسى العقوبات البدنية والنفسية بالبنات بداخل العائلة (لاحظ أننا سنرد على هذه التخرصات). ومن منظور ثانٍ، يرى البعض الآخر أن البنت تمثل عبئا اقتصاديا على العائلة لأنها لا تعمل؟ ولا تسهم في تكوين مصادر عيش العائلة، زيادة على أن مهمة تزويجها في مثل هذه المجتمعات إنما تمثل أكبر الأعباء حيث إن على عائلة البنت المرشحة للزواج أن تدفع المهر، مهيئة بذلك كل الأسباب الاقتصادية لبناء بيت الزوجية، من الدار نفسها إلى الأثاث والذهب وحتى السيارة، بينما يدخل الذكر بيت الزوجية بـ”جهده الفردي”، عاريا من كل مال.
يصح هذا الكلام في هذه المجتمعات الآسيوية، ولكنه ليس مطلق الصحة، خاصة إذا ما تناولنا حال المجتمعات الهندية عن كثب، كما فعلت أنا شخصيا عندما فزت بالدراسة هناك، بعد أن كانت فيه أنديرا غاندي (وهي سيدة) أقوى شخصية في هذا المجتمع الذكوري المفترض، وفي ذلك الزمن الذي كانت فيه العديد من الولايات الهندية (كل ولاية أكبر من دولة مستقلة صغيرة في الشرق الأوسط) تحت حكم امرأة، ناهيك عن رموز وشواخص الديانة الهندوسية الأنثوية، وهي كثيرة جدا. لذا فإن المرأة في المجتمعات هناك لا تشكل عبئا اعتباريا أو أخلاقيا أو اقتصاديا؛ بل على العكس من ذلك: فقد لوحظ في الهند وفي العديد من مجتمعاتنا الشرق أوسطية حالات تفوق الخيال من نماذج النساء اللائي يشرفن بعض الذكور المتسيبين من “العالات” على المجتمع في أخلاقهن وسمو منزلتهن وأدوارهن الاجتماعية والاقتصادية. ثمة نماذج، لا تحتاج إلى جهد في التقصي والبحث كي تبرهن على أن هناك فئات اجتماعية مدنية وريفية، تكون فيها المرأة هي العاملة وهي المحاربة من أجل شرف وبناء العائلة، بينما يكون ذكور هذه الفئات الاجتماعية عالات عاطلة لا تقدم ولا تؤخر. ويدل المشهد الريفي في جنوب شرق آسيا وحتى في بعض المجتمعات الشرق أوسطية المسلمة أن قوة العمل هي في جوهرها، قوة مؤنثة أو أنثوية، بينما تكون فجوة الابتلاع الاستهلاكي هي فجوة مذكرة أو ذكورية، للأسف.
ليس من السهولة أن يدري المرء إلى أين ستقود ظاهرة القتل الانتقائي للأجنة المؤنثة، خاصة بقدر تعلق الأمر بالمشاكل الديموغرافية السكانية على المدى البعيد: فهل يمكن للمرء أن يتخيل عالما مكتظا بالرجال، ولكنهم رجال بلا نساء؟ إنها صورة واجمة تذكّر المرء بصور “الأرض اليباب”، قصيدة القرن العشرين الأكثر شهرة التي كتبها ت. س. إليوت. هذا يعني أن الأجيال القادمة، إذا ما تواصلت بممارسة هذه الجاهلية، ستدخل الحروب لأسباب من نوع جديد: فبدلا من الحرب من أجل مصادر المياه أو البترول اليوم، سنشهد حروبا من أجل الجمال الأنثوي، أي من أجل النساء والسبي! وقد واجه العالم حالات مشابهة في تاريخه الحديث، حيث تناقصت أعداد الذكور بشكل مخيف في أوروبا بعد الحربين العالميتين اللتين شهدهما القرن الماضي في أوروبا، الأمر الذي أدى إلى نتائج وخيمة بسبب اختلال التوازن الجنسي أو “الجنوسي”ـ كما يحلو لبعض المعربين تسميته. ويمكن أن تكون زيادات أعداد الإناث في الغرب وراء العديد من سجاياه السلمية والديمقراطية البائنة للعيان اليوم، حيث العناية بالجمال والرقة وبفنون السلام واحترام حقوق الإنسان، على عكس ما يجري في العديد من المجتمعات الشرقية من إساءة للجمال وللمرأة، لأنها مجتمعات تقدم فنون الحرب على فنون السلام، تحتفي بالعنف والإرهاب والقساوة، بديلا عن الاهتمام بوسائل السعادة والازدهار.
هذه ليست ظاهرة هندية فحسب، لأنها موجودة كذلك في بعض المجتمعات في إفريقيا والشرق الأوسط، بل وحتى في الغرب: وكأن الرجل يريد أن يكون انتقائيا فيما حباه الله به من نعم (والعياذ بالله)، الأولاد والبنات، فيقال في الغرب: وهو فعلا عالم رجال إن لم تعطَ المرأة ما تستحق من تكريم واحترام. وعودة إلى التراث والتاريخ، يذهب العديد من المؤرخين والآثاريين إلى أن المرأة كانت تحاط بالقدسية والتقدير في المجتمعات القديمة التي سبقت ظهور الأديان المنزّلة، فتتضح هذه الحال في تراث عشتار وأفروديت وسواهما من رموز الجمال والخصب وعطاء الحياة في الآثار البابلية والكلدانية والمصرية والإغريقية القديمة. النظم والتقاليد الدينية حقبة ذاك كانت تسمح للمرأة بمنزلة عالية، كي تكون الملكة والكاهنة والأم ورب الأسرة، رمزا للحنان والدفء والمحبة والصبر. لقد أدى هذا الإحترام الاجتماعي القديم للمرأة إلى المساعدة على انتشاء المجتمعات والتقدم الذي تحقق آنذاك. هذا وقد جاء الإسلام بمبادئ اجتماعية وروحية ترفع من شأن المرأة وتحفظ لها كرامتها، كأم وأخت، زوجة وابنة، على عكس بعض الممارسات المسيئة للإسلام التي يضطلع بها البعض. وقصة الإسلام ورسوله ذاتها تعكس هذا الاحترام، خاصة إذا ما استذكرنا شواخصا نسائية رفيعة دفعت بالنساء إلى مرتبة القديسات، والأسماء كثيرة في هذا المجال: ابتداءً من أم النبي (صلى الله عليه وسلم) وأزواجه وابنته الزهراء (رضي الله عنها)، وانتهاءً ببطلات الإسلام والفتوحات، كخولة بنت الأزور ورفيدة والشواعر اللائي كن يدفعن المسلمين إلى النصر في الفتوحات. لذا فإن الإسلام الحق لا يحتفظ بأي مما ألصق به من إساءة تمثيل وتحوير في موقفه المستنير والبناء من المرأة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق