السبت، 18 نوفمبر 2017

ما هذا العبث؟! بقلم : أ.د. محمد الدعمي



عندما يتعامى الإنسان عن حقائق التاريخ والوجود المتحضر، تراه يرتكب إثما مؤلما بحق نفسه وبحق سواه من البشر ليدنو بنفسه نحو مملكة الحيوان، باعتبار أن الأخير يشارك الإنسان في العديد من الصفات والأنشطة البيولوجية، ولكنه يفشل في الارتقاء إلى احتكار الإنسان لإنتاج الثقافة والحفاظ عليها، استثناءً من كل المخلوقات.
إن التشبث بالتهشيم والعبث بالآثار الملموسة (وهي كنوز ثقافية) لحضارات عظيمة بائدة كانت قد قامت وازدهرت حتى فاقت كثيرا حضارتنا الحالية، لا يعني قط بأن من يفعل ذلك يستجيب لإرادة الإسلام الحق بتحطيم الأصنام، كما يدعي الجهلة والسفهاء. وبذلك يرتكب مخربو طالبان، أو ما يسمى بالدولة الإسلامية، زيفا وتعسفا، خطا قاتلا لا بد أن يقضي على جميع ما حملوه للآخرين من شعارات وأفكار حتى وإن كان بعضها يبدو مقبولا على السطح. وهكذا، وكما فعلت هذه الشبكات الإرهابية عبر عروض قساوات وفظائع الذبح وقضم القلوب الحية والحرق للأحياء أو التخريب للثقافة الحية، تحفر كل من طالبان والدولة الإسلامية المزعومة، من بين سواهما من الشبكات الإرهابية، قبورهما بيدها، مخطئة الإدانات العالمية “علامات” صحة وتوكيد على “حسن سلوكها”، حسب معاييرها هي فقط.
وإذا ما شئنا مباشرة هذا الموضوع المثير من جذوره، فإن للمرء أن يزعم بأن الفارق بين الثقافة والبربرية، إنما يمكن أن يستنبط من الفارق بين الإنسان والحيوان، ذلك أن الثقافة ترتفع بالإنسان من دونيات مملكة الحيوان الغرائزية الأساس لتسمو به عاليا إلى مملكة هي أدنى بقليل من مرتبة “الملائكة”، باعتبار أن الأخيرة هو حلقة الوصل بين الأرض والسماء، أي بين الدنيوي والروحي. لذا، فعندما يتعامى الإنسان عن حقائق التاريخ والوجود المتحضر، تراه يرتكب إثما مؤلما بحق نفسه وبحق سواه من البشر ليدنو بنفسه نحو مملكة الحيوان، باعتبار أن الأخير يشارك الإنسان في العديد من الصفات والأنشطة البيولوجية، ولكنه يفشل في الارتقاء إلى احتكار الإنسان لإنتاج الثقافة والحفاظ عليها، استثناءً من كل المخلوقات.
يحافظ الغربيون على آلهة نينوى المجنحة في متاحفهم بكل عناية، ليس لأنهم يؤمنون بها أو يتوجهون إليها في صلواتهم، ولكن لأنهم يحترمون الثقافة التي ميزت الآشوريين عن سواهم من الأقوام الأدنى تحضرا التي كانت تعبد أشكالا أخرى لتمظهرات الألوهية، ومنها الضوء والنجوم وعناصر الحياة كالماء والشمس و”اليخضور”. لقد حصص البريطانيون أول وأكبر قاعة في “المتحف البريطاني” للآشوريات، ليس لأنهم لا يذهبون للكنيسة كل يوم أحد، ولكن لأنهم، كما يحترمون أنفسهم، يحترمون الآخرين والثقافات الأخرى البائدة والحالية بنفس الدرجة، وهم يذكروننا، زوارا للمتحف ومترددين على مكتبته العملاقة، بأن آلهة نينوى المجنحة التي فتنت وأبهرت عمالقة الفكر والفن من أمثال “جون رسكن” Ruskin أو “جبرائيل روزتي” Rossetti لا تختلف كثيرا في غموض تعابير وجوهها (بين الابتسام والغضب) عن أعظم لوحة فنية في التاريخ، “الموناليزا” من إبداع ليوناردو دافنشي.
لم تكن الثيران المجنحة آلهة أمم لم تحظ بالإسلام أو بسواه من الأديان التوحيدية فقط، لأن هذه المنجزات الفنية العملاقة كانت قد سبقت ظهور هذه الأديان، واعتمدت كذلك رموزا لجبروت نمرود وآشور وسواهما من عواصم الإمبراطورية الآشورية التي امتدت هيمنتها من شمال بلاد فارس إلى دلتا النيل، لأول مرة في تاريخ الشرق. إن عضلات الثور المجنح البارزة ترمز للقوة، كما ترمز أعضاؤه التناسلية البارزة للقدرة على التخصيب والتكاثر، ناهيك عن أن اجنحته هي رموز السرعة والتحليق في الأجواء، أشبه بترميزات “القوة الجوية” في عالم اليوم.
أما ارتكاب الخطأ المخزي بإرسال جهلة استقر القمل على رؤوسهم وأجسادهم، بانيا مستعمرات قذرة تحت شعرهم، كي يفعّلوا المعاول والفؤوس على أجمل ما قدم الإنسان من أعمال فنية في التاريخ، بلا مبالغة، إنما هو خطأ يعكس غباءً من نوع متفرد في “قواميس الغباء والأغبياء”.
لقد وضع الآشوريون ثيرانهم الرمزية المجنحة على أبواب مدنهم وعواصمهم الإمبراطورية رموزا لبث الرعب فيمن تسول له نفسه التحرش بهذه الإمبراطورية وبمدنها العظمى. هم لم يخطر ببالهم أن يأتي يوما تحطم فيه “ثيران بشرية”، بقرون، ثيرانهم الصخرية المجنحة التي بثوا بها الحياة بتوظيف عبقرية الأصابع وذكاء العقل الرافديني المثقف. وهم بذلك قد قدموا دليلا على البون الشاسع بين الثقافة والبربرية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق