الجمعة، 24 نوفمبر 2017

دور الأقليات في حركة الترجمة والتعريب بقلم : أ.د. محمد الدعمي



من النتائج المهمة لتدهور مركزية الإمبراطورية العثمانية فيما بعد، هو أنها اضطرت هذه لمنح تسهيلات وتنازلات كبيرة للتجار الأجانب من فرنسيين وبريطانيين وألمان، حيث أخذ هؤلاء وبفضل هذه المزايا والتنازلات القانونية التي قدمتها الأستانة، اختراق الاقتصاد العثماني وتجهيزه ببضائع مصنعة رخيصة مستوردة، على حساب الصناعات المحلية، الأمر الذي قاد إلى إضعاف الاقتصاد العثماني وحصول هؤلاء “المترجمين” وجلهم من الأقليات الأجنبية على امتيازات لا يحظى بها سواهم، نظرا لدورهم الأساس في التجارة وأنشطة التواصل، إذ تمكنوا من الحصول على ذات الامتيازات التي حظي بها التجار الأوروبيون قبل حين.
ليس من الإنصاف إغفال الدور التشكيلي الذي لعبته الأقليات غير العربية في بناء وإغناء الثقافة العربية الإسلامية عبر التاريخ. يمكن للمحطات الرئيسية التاريخية أن تقودنا إلى حقب الفية لا تقل قدما عن السبي البابلي لليهود على أيدي الإمبراطور البابلي الكلداني نبوخذ نصر، زد على ذلك المحطات التالية التي لا يمكن إلا أن تكون أكثر تماسا مباشرا بأجيالنا الحية اليوم وبالثقافات العالمية الفاعلة الآن، خاصة بعد تأسيس وتشكيل بيت الحكمة البغدادي الذي أسسه الخليفة العباسي في قلب المدينة المدورة (دار السلام، بغداد)، مزدهرا بخاصة على أعوام المأمون أي إبان أوج العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية، ذلك أن هذا البيت يمثل علامة نوعية دالة مباشرة التأثير بالنسبة لعالم اليوم، ليس بقدر تعلق الأمر باستقصاء أدوار المعربين والمترجمين عامة حقبة ذاك فقط، ولكن كذلك بقدر تعلقه بحفظ وعناية الثقافة العربية آنذاك بكنوز الثقافتين الكلاسيكيتين الأوروبيتين، الإغريقية والرومية، عن طريق حركة التعريب والترجمة التي قادها “بيت الحكمة” العباسي على سبيل الدراسة والتفاعل، والإضافة والتطوير.
ويبدو أن إدارة بيت الحكمة الجديد في بغداد، الذي أسسته رئاسة الجمهورية في أواسط تسعينيات القرن الماضي، قد عمد إلى تشكيل لجنة لتورخة هذا البيت وتأصيله رجوعا إلى العهد العباسي برئاسة الأستاذ المؤرخ الجليل الراحل الدكتور بهجت التكريتي، وقد حظيت، شخصيا، بتسميتي عضوا في هذه اللجنة (ممثلا لفريق الترجمة)، إذ أماطت هذه اللجنة اللثام (لا أعرف مصير خلاصاتها ودراساتها بعد الغزو الأميركي وتدمير البيت الحديث برمته، لسوء الطالع) عن حقائق مذهلة تستحق الاهتمام، ومفادها هو أن كبار المترجمين والمعربين الذين وظفهم رأس الخلافة العباسية لتعريب عيون الكتب العالمية حقبة ذاك، تلك التي أبدعتها أقلام عباقرة الأمم الأعجمية، إنما كانوا من الأقليات الدينية والإثنية المنضوية تحت سيادة الدولة العباسية: فكان من هؤلاء السريان والآراميين والعبريين والكلدان والفرس والهنود والإغريق، من بين أقليات أخرى كانت على تماس وتفاعل ثقافي مع ثقافات اللغات الأجنبية التي أراد رأس الخلافة الإفادة من كنوزها لاستثمارها في حقول التنجيم والطب والهندسة والعلوم التطبيقية والفلسفة، من بين عديدة أخرى.
وقد لوحظ دور رجال الأقليات، بوصفه دورا “عولميا” حاسما لأنهم خدموا جسورا ثقافية مدت معطيات الحضارة العربية الإسلامية بأسمى ما كان ينقصها من عناصر عقلية وثقافية كانت متاحة للأعاجم بينما كنا (عربا) نفتقدها آنذاك. النقطة المهمة في هذا السياق هي أن العرب عامة، غالبا ما كانوا يعزفون عن تعلم اللغات الأجنبية، إذ كانوا يخصون هذه اللغات، خطا وتعسفا، بنظرة دونية، عادين اللغة العربية فقط، بوصفها لغة القرآن ولغة أهل الجنة، هي اللغة الوحيدة التي تستحق الدراسة والتعمق، وذلك كما فعل الأوروبيون باعتماد اللغة اللاتينية، خاصة وأنها الوسيلة الأساسية للدراسات القرآنية كالتفسير، زيادة على دراسات الحديث والسنة النبوية الشريفة، ناهيك عن دراسات الأدب والتاريخ العربي، أي ذلك التاريخ الذي ارتكنت إليه علوم فقه اللغة والنحو والبلاغة، من بين علوم أخرى. وقد أدت النظرة الدونية التي خص بها عرب العصر الوسيط اللغات “الأعجمية” إلى خدمة شبان وعلماء الأقليات في قيادة وتفعيل وتحقيق عملية احتكار التعريب والترجمة بحدود هذه الأقليات الصغيرة التي أفادت من تفتح الثقافة العربية، عاكسة اهتمام الخلفاء بالثقافات غير العربية.
لقد تبلور دور هذه الأقليات في العصر العثماني ثانية، خاصة على عهدي السلطانين المصلحين مراد الثاني وسليم الثالث، ذلك أنهما استشعرا بدايات تدهور الإمبراطورية وحاولا إنقاذها من براثن التراجع والتفكك والنكوص من خلال إطلاق عمليات الإصلاح الإداري الواسعة المعروفة بـــ”التنظيمات” وبتشكيل قوات حديثة، سوى وحدات الجندرمة القديمة المرتكنة إلى تقاليد صوفية فارسية قديمة (أصحاب القلنسوات الحمر)، عبر الإفادة من علوم وخبرات الضباط الفرنسيين والألمان لتشكيل ولتدريب وحدات من القوات الحديثة الجديدة. هنا تنامى الشعور الوسواسي بأهمية استثمار معارف الأقلية الإغريقية التابعة للكنيسة الأرثدوكسية في “أستانة” أي إسطنبول كمترجمين يمكن أن يخدموا كذلك في مد الجسور الدبلوماسية والثقافية الأولى مع الأمم الأوروبية التي قدمت نماذج تستحق المحاكاة في نظر السلطانين الرائدين أعلاه. وقد أذن ذلك ببداية إرسال “الباب العالي” البعثات الدبلوماسية الأولى إلى باريس وبرلين ولندن، فكانت مصائر هذه البعثات وأنشطتها مرتهنة (بطبيعتها وأهدافها) بإرادة ودور “الترجمان” الإغريقي الذي كان يتصرف حسب معطيات مصالحه وذوقه، في حين حاول محمد علي باشا بمصر، من الناحية الثانية، أن يبني دولة عصرية خاصة به وبذريته هناك، محررا إرادته من سطوة “الترجمانات” الإغريق عن طريق تأسيس “مدرسة للألسن” التي أراد لها أن تغنيه عن الحاجة للأجانب ولأفراد الأقليات الذين كان يشك في ولائهم، برغم انتمائه شخصيا لأقلية ألبانية طارئة على مصر!
ومن النتائج المهمة لتدهور مركزية الإمبراطورية العثمانية فيما بعد، هو أنها اضطرت هذه لمنح تسهيلات وتنازلات كبيرة للتجار الأجانب من فرنسيين وبريطانيين وألمان، حيث أخذ هؤلاء وبفضل هذه المزايا والتنازلات القانونية التي قدمتها الأستانة، اختراق الاقتصاد العثماني وتجهيزه ببضائع مصنعة رخيصة مستوردة، على حساب الصناعات المحلية، الأمر الذي قاد إلى إضعاف الاقتصاد العثماني وحصول هؤلاء “المترجمين” وجلهم من الأقليات الأجنبية على امتيازات لا يحظى بها سواهم، نظرا لدورهم الأساس في التجارة وأنشطة التواصل، إذ تمكنوا من الحصول على ذات الامتيازات التي حظي بها التجار الأوروبيون قبل حين.
والحق، فقد وقعت الدولة العثمانية في ذات خطأ النظرة الدونية للغات الأوروبية التي ابتليت بها الدولة العباسية سابقا، ليس فقط لأسباب دينية، بل كذلك لأسباب الاعتزاز المسرف باللغة التركية، المستوحاة من الروح القومية التي حاولت تتريك الجميع، ومنهم العرب، فظهر للعيان ما سميت باللغة التركية العثمانية أي اللغة الرسمية التي تستعملها النخبة العليا من كبار الموظفين والضباط، أي اللغة التركية المشذبة المعتمدة في المخاطبات الرسمية، وهي حال كانت تعكس كذلك تدني الاهتمام باللغات الأجنبية كذلك، الأمر الذي قاد إلى المزيد من احتكار الأقليات تعلم وتداول اللغات الأوروبية، وقد دام هذا الوضع حكرا على هذه الأقليات حتى وقت قريب، نفطن عليه نحن في عراق أواسط القرن الماضي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق