الجمعة، 26 أغسطس 2016

اصطناع التاريخ القومي وانتحال النتاج الثقافي

 

 
 
د. محمد الدعمي
أ.د. محمد الدعمي كاتب
وباحث أكاديمي عراقي

إنه لمن غرائب الأمور أن يشعر المرء بالاستفزاز عندما يرى دولًا قريبة أو محاددة لبلاده وهي تستذكر أمجادًا لحضارات وثقافات كان هو دائمًا ما يعتقد بأنها تخص بلاده فقط. لذا اعتاد هو أن يتهم هذه الدول المجاورة بأنها “تسرق” من معين ثقافة بلاده ومعطيات حضارتها على سبيل “الانتحال”. إلا أن للمرء أن يلاحظ بأن المشتركات التاريخية والثقافية بين دول الجوار، أو دول الإقليم الواحد غالبًا ما تكون مشتركة أو متداخلة عضويًّا، نظرًا لأن الحدود الدولية القائمة اليوم بين الشعوب المتجاورة لم تكن موجودة فيما مضى من عصور، الأمر الذي كان يسمح بهذا النوع من التداخل والاختلاط، السكاني والثقافي.
وفي هذا السياق، استذكرت أحد المثقفين العراقيين المبرزين (رحمة الله على روحه)، وقد كان يعمل ممثلًا للعراق في “اليونسكو” لأنه اتهم اليهود بـ”سرقة” أو “انتحال” نتاجات ثقافية عراقية، وخص بالذكر منها “المقام العراقي” الشهير.
إن الحقيقة يمكن أن تعتصر في أن هذا المثقف، الذي كان منتدبًا من قبل الحكومة العراقية لليونسكو، إنما كان يحاول أن يؤدي دوره “الوطني” الذي يسر هؤلاء الذين رشحوه لتلك الوظيفة اللطيفة، فعينوه في باريس! هو كان يرنو لأن يلطف مشاعرهم بوطنياته وبدفاعه عن الموروث الثقافي “القومي” حفاظًا عليه من “السرقة” أو “الانتحال”.
بيد أن الحقيقة لم تكن كذلك قط، فالمقامات العراقية، سوية مع الكثير من الموروثات الفلكلورية، إنما هي نتاج ثقافي قديم اشترك به الفرس والعرب، الترك واليهود، لأن هذه الأقوام كانت متداخلة ومختلطة في تعاملاتها خاصة في بلاد ما بين النهرين، قبل أن تسحب خطوط الحدود الدولية بين الدول القائمة اليوم قبل حوالي قرن!
ودليل ذلك هو أن الفنانين والمؤدين الأفضل في مضمار المقام في عراق القرنين التاسع عشر والعشرين كانوا من اليهود العراقيين الذين لم يكونوا يفكرون بأن هناك كيانًا سيؤسس تحت اسم “إسرائيل”. هم كانوا عراقيين، فصاروا إسرائيليين بعد أن هاجروا إلى هناك. وتنطبق هذه الحال على نماذج عدة من النتاجات الثقافية التي تشترك بها دول الجوار بسبب عدم وجود الحدود الدولية حقبة ذاك.
لذا يتكلم الآثاريون عن بقايا سومرية وأكدية من بلاد النهرين في دول الخليج العربي الشقيقة. هذه، بطبيعة الحال، ليست حالا شاذة أو غير طبيعية: فعندما كان سكان بلاد الرافدين يبحرون إلى مسقط أو البحرين في غابر العصور، لم تكن هناك تأشيرات دخول ولا حدود دولية. كان العالم مفتوحًا والثقافات كانت تتفاعل عبر اختلاط العناصر الإثنية والدينية بحرية أعلى مستوى من حريات اليوم، برغم عصر العولمة اليوم.
أما الانتحال الثقافي الحقيقي، فإنه يحدث عندما يدعي مؤسسو كيانات سياسية جديدة بأنهم هم فقط أصحاب الفضل في هذا التقليد أو ذاك النتاج الثقافي، على سبيل دعم تأسيس كياناتهم عن طريق “تصنيع” أو “افتعال تاريخ” قومي أو روحي له، لتعزيز وجوده وإرساء أسباب ديمومته

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق