الجمعة، 12 أغسطس 2016

متاهة الشرق الأوسط

 

د. محمد الدعمي
إن من يتابع منحنيات السياسات الإقليمية بدواخل الشرق الأوسط، وآثارها على سياسات الدول الكبرى، لا بد وأن يدرك لماذا تشعر إدارات هذه الدول القوية (خارج الإقليم) بالحيرة والحرج حيال تنوعات التحالفات والمنظومات وتداخلاتها التي صار تشكلها بسرعة فائقة أشبه ما يكون بنمط تاريخي يصعب فهمه أو التغاضي عنه أو تجاوزه.
تكمن واحدة من جماليات رواية إي. أل. جيمس E. L. James الموسومة بـ(خمسون تدرجا للرمادي) Fifty Shades of Gray في مفارقة هذا العنوان الأخاذ: ذلك أننا نستخدم لفظ “رمادي” للدلالة على حالة وسطى، لا سوداء ولا بيضاء، لذا نقول إن موقف فلان “رمادي”؛ بمعنى أنه حال يفتقد للوضوح، لذا فهو حال مربك بالنسبة للرائي أو المتابع.
لذا أستميح الروائي الأميركي جيمس عذرًا لاستعارة عنوان روايته بهدف تطبيقه على أحوال المواقف السياسية والفكرية عبر إقليم الشرق الأوسط، ذلك المرجل الساخن الذي تعتمل بدواخله أنواع الصراعات التي تنذر بالانفجار، إن حدث (والعياذ بالله) فإنه لن يبقي ولن يذر، بكل تأكيد.
إن من يتابع منحنيات السياسات الإقليمية بدواخل الشرق الأوسط، وآثارها على سياسات الدول الكبرى، لا بد وأن يدرك لماذا تشعر إدارات هذه الدول القوية (خارج الإقليم) بالحيرة والحرج حيال تنوعات التحالفات والمنظومات وتداخلاتها التي صار تشكلها بسرعة فائقة أشبه ما يكون بنمط تاريخي يصعب فهمه أو التغاضي عنه أو تجاوزه. ونظرًا لأن الدول الكبرى تدرك أن لها مصالح هنا، وإن بدرجات متفاوتة، فإنها تبقى تعتمد على شكل من أشكال “المقامرة” عندما يأتي السؤال إلى قضية ترتبط بالشرق الأوسط. وبكلمات أخرى، يشعر المرء، خاصة عندما يتابع ما يجري من نقاشات حول الشرق الأوسط في الولايات المتحدة الأميركية وفي أوروبا الغربية، أقول يشعر بأن هامشًا كبيرًا من الاعتماد على قوة النبوءة والقدر يشوب سياسات هذه الدول حيال أوضاع إقليمنا المتقلبة والمتفاعلة على نحو متوالٍ، لا يخلو من عنصر المفاجأة المربكة.
ربما تنطبق هذه الحال المربكة بشكل دقيق على ما حدث ويحدث الآن في تركيا، خاصة بعد مفاجأة “الانقلاب” الذي راهن الكثيرون على أنه عملية مناورة مصطنعة رتبها وأدارها الرئيس التركي، أردوغان، للقضاء على خصومه الداخليين، إلا أنهم سرعان ما تخلوا عن هذه الافتراضية بعدما تبين من تورط واسع لكبار ومختلف مراتب القوات المسلحة في هذا الانقلاب الذي كان يرنو إلى إعادة تركيا إلى جادة القومية الطورانية المتعصبة للعنصر التركي، بعيدًا عن الإسلام السياسي الذي رفع أردوغان بيرقه منذ عدة عقود. إن ما زاد من الشعور بأن الأمر لم يكن مجرد “مسرحية” قد تجسد في نزول كوادر حزب أردوغان للشارع لكسر شوكة العسكريتارية التركية التي طالما بقيت “صمام الأمان” بقدر تعلق الأمر بالتحولات السياسية الداخلية بتركيا، ناهيك عن تضاعف أهميتها بعد أن استلمت “ملف التمرد الكردي” شرق وجنوب شرق تركيا، إذ تحولت القوات المسلحة إلى رمز لوحدة تركيا ولقدرتها على لجم، بل وبتر تمرد “حزب العمل الكردي”، ناهيك عن تقليم أظافر ميليشياته الممتدة عبر حدود تركيا إلى العراق وسوريا.
أما بالنسبة لمفاجأة زيارة الرئيس التركي لموسكو، وما تمخض عنها من شهر عسل بين موسكو وأنقرة، فإنها لا بد وأن زادت في تشويش وغائمية الرؤيا، خاصة بقدر تعلق أهم موضوع أشغل الرئيسين التركي الروسي، موضوع حل الصراع في سوريا ومحاولة تطويق ولجم تمدداته الإقليمية والدولية.
أما أن يظهر هذا المحلل أو ذاك ليدعي بأنه قادر على حل لغز “الشرق الأوسط” وقراءة “نصه” بدقة فإنه لا يزيد عن ضرب من ضروب الخيال لأن الشرق الأوسط إنما صار فضاء التيئيس والاعتراف بالعجز حتى بالنسبة لأكبر العقول الاستراتيجية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق