وهيب نديم وهبة
نزول الذئب عن سفح كنعان
رُوِيَ أنَّ
يَعْقُوبَ لَمَّا قَالُوا لَهُ: "فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ"، قَالَ لَهُمْ: "أَلَمْ
يَتْرُكِ الذِّئْبُ لَهُ عُضْوًا فَتَأْتُوني بِهِ أَسْتَأْنِسُ بِهِ؟! أَلَمْ يَتْرُكْ
لي ثَوْبًا أَشُمُّ فِيهِ رَائِحَتَهُ؟ قَالُوا: "بَلَى! هذَا قَمِيصُهُ مَلْطُوخٌ
بِدَمِهِ"؛ فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَجَاؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ}،
فَبَكَى يَعْقُوبُ عِنْدَ ذلِكَ وَقَالَ لَبَنِيهِ: "أَرُوني قَمِيصَهُ، فَأَرُوهُ
فَشَمَّهُ وَقَبَّلَهُ، ثُمَّ جَعَلَ يُقَلِّبُهُ فَلَا يَرَى فِيهِ شَقًّا وَلَا َتْمِزيًقا،
فَقَالَ: "وَاللهِ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ مَا رَأَيْتُ كَاليَوْمِ ذِئْبًا
أَحْكَمَ مِنْهُ؛ أَكَلَ ابْنِي وَاْخَتَلَسَهُ مِنْ قَمِيصِهِ وَلَمْ يُمَزِّقْهُ
عَلَيْهِ؛ وَعَلِمَ أَنَّ الأَمْرَ لَيْسَ كَمَا قَالُوا، وَأَنَّ الذِّئْبَ لَمْ
يَأْكُلْهُ، فَأَعْرَضَ عَنْهُمْ كَالمُغْضَبِ بَاكِيًا حَزِينًا وَقَالَ: يَا مَعْشَرَ
وُلْدِي! دِلُّوني عَلَى وَلَدِي؛ فَإِنْ كَانَ حَيًّا رَدَدْتُهُ إِلَيَّ، وَإِنْ
كَانَ مَيْتًا كَفَّنْتُهُ وَدَفَنْتُهُ، فَقِيلَ قَالُوا حِينَئِذٍ: أَلَمْ تَرَوْا
إِلَى أَبِينَا كَيْفَ يُكَذِّبُنَا في مَقَالَتِنَا! تَعَالَوْا نُخْرِجْهُ مِنْ
الجُبِّ وَنُقَطِّعْهُ عُضْوًا عُضْوًا، وَنَأْتِ أَبَانَا بِأَحَدِ أَعْضَائِهِ فَيُصَدِّقْنْا
في مَقَالَتِنَا وَيَقْطَعْ يَأْسَهُ؛ فَقَالَ يَهُوذَا: وَاللهِ لَئِنْ فَعَلْتُمْ
لَأَكُونَنَّ لَكُمْ عَدُوًّا مَا بَقِيتْ، وَلَأُخْبِرَنَّ أَبَاكُمْ بِسُوءِ صَنِيعِكُمْ؛
قَالُوا: فَإِذَا مَنَعْتَنَا مِنْ هذَا فَتَعَالَوْا نَصْطَدْ لَهُ ذِئْبًا، قَالَ:
فَاصْطَادُوا ذِئْبًا وَلَطَّخُوهُ بِالدَّمِ، وَأَوْثَقُوهُ بِالحِبَالِ، ثُمَّ جَاؤُوا
بِهِ يَعْقَوبَ وَقَالُوا: يَا أَبَانَا! إِنَّ هذَا الذِّئْبَ الَّذِي يَحِلُّ بَأَغْنَامِنَا
وَيَفْتَرِسُهَا، وَلَعَلَّهُ الَّذِي أَفْجَعَنَا بِأَخِينَا لَا نَشُكُّ فِيهِ،
وَهذَا دَمُهُ عَلَيْهِ، فَقَالَ يَعْقُوبُ: أَطْلِقُوهُ؛ فَأَطْلَقُوهُ، وَتَبَصْبَصَ
لَهُ الذِّئْبُ؛ فَأَقْبَلَ يَدْنُو مِنْهُ وَيَعْقُوبُ يَقُولُ لَهُ: أُدْنُ أُدْنُ؛
حَتَّى أَلْصَقَ خَدَّهُ بِخَدِّهِ فَقَالَ لَهُ يَعْقُوبُ: أَيُّهَا الذِّئْبُ! لِمَ
فَجَعْتَنِي بِوَلَدِي وَأَوْرَثْتَنِي حُزْنًا طَوِيلًا؟! ثُمَّ قَالَ اللَّهُمَّ
أَنْطِقْهُ، فَأَنْطَقَهُ اللهُ تَعَالَى فَقَالَ: وَالَّذِي اصْطَفَاكَ نَبِيًّا
مَا أَكَلْتُ لَحْمَهُ، وَلَا مَزَّقْتُ جِلْدَهُ، وَلَا نَتَفْتُ شَعْرَةً مِنْ شَعَرَاتِهِ،
وَالله! مَا لِي بِوَلَدِكَ عَهْدٌ، وَإِنَّمَا أَنَا ذِئْبٌ غَرِيبٌ أَقْبَلْتُ مِنْ
نَوَاحِي مِصْرَ في طَلَبِ أَخٍ لي فُقِدَ، فَلَا أَدْرِي أَحَيٌّ هُوَ أَمْ مَيِّتْ،
فَاصْطَادَني أَوْلَادُكَ وَأَوْثَقُوني، وَإِنَّ لُحُومَ الأَنْبِيَاءِ حُرِّمَتْ
عَلَيْنَا وَعَلَى جَمِيعِ الوُحُوشِ، وَتَاللهِ لَا أَقَمْتُ في بِلَادٍ يَكْذِبُ
فِيهَا أَوْلَادُ الأَنْبِيَاءِ عَلَى الوُحُوشِ؛ فَأَطْلَقَهُ يَعْقُوبُ وَقَالَ:
وَاللهِ لَقَدْ أَتَيْتُمْ بِالحُجَّةِ عَلَى أَنْفُسِكُمْ؛ هذَا ذِئْبٌ بَهِيمٌ خَرَجَ
يَتْبَعُ ذِمَامَ أَخِيهِ، وَأَنْتُمْ ضَيَّعْتُمْ أَخَاكُمْ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ
الذِّئْبَ بَرِيءٌ مِمَّا جِئْتُمْ بِهِ. "بَلْ سَوَّلَتْ" أَيْ زَيَّنَتْ
لَكُمْ. "أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا" غَيْرَ مَا تَصِفُونَ وَتَذْكُرُونَ.
النَّصُّ:
مَا بَيْنَ حَبْلِ الغَسِيلِ وَحَبْلِ المِشْنَقَةِ
وَشَظَايَا الرَّصَاصِ وَالقَذَائِفِ
تَتَطَايَرُ أَجْزَاؤُكَ في الرِّيحِ
تَعْلُو/ تَلُوحُ/ تَلْتَفُّ كَالأَفْعَى
حَوْلَ قَبَّةِ القَمِيصِ أَوْ الرَّقَبَةِ...
أَلَسْتَ هُنَا...
تَتَأَرْجَحُ بَيْنَ جَفَافِ الصَّحَارِي
وَنَارِ الاحْتِرَاقِ
أَنَا لَسْتُ هُنَا
أَضَاعَتْنِي الحِكْمَةُ... قَتَلَتْنِي العَتْمَةُ
يَا النَّازِحِينَ العَابِرينَ مِنَ الوَرْدِ إِلَى المَنَافي
وَالجُنْدِ وَالحَدِيدِ وَالقَصْفِ وَآلَاتِ الزَّحْفِ
مِنَ الوَرِيدِ حَتَّى القِيَامَةِ
يَا ذِئْبُ - صُرَاخُكَ أَيْقَظَنِي
قَضَّ مَضْجَعِي
مَنْ يَعْرِفُ في زَمَنِي
مَنْ خَانَكَ أَوْ كَانَ مَعِي
وَلَيْسَ لي في بِلَادِ الأَنْبِيَاءِ
لَيْسَ لي...
وَأَنَا لَسْتُ هُنَا
كُنْ مَعِي...
كُنْ مَعِي "يَا ذِئْبُ" وَأَصْدِقْنِي العِبَارَةَ...
كَيْفَ أَنْزَلُوا المَلَائِكَةَ في البِئْرِ
وَخَانُوا المِلْحَ وَطَعْمَ القَمْحِ
وَالسَّمَاءُ في غَفْلَةٍ...
عَتْمَةٌ أَشْرَقَتْ في لَيْلٍ شَمْسِيٍّ
صَعَدَتْ حَتَّى قِمَّةِ جَبَلِي... كَرْمِلِي..
غَطَّتِ المُرُوجَ وَالتِّلَالَ وَالوِهَادَ بِالسَّوَادِ
الغُولُ وَالمَغُولُ وَجَحَافِلُ القَوَافِلِ خَلْفِي...
كُنْ مَعِي...
قَمِيصِي في الرِّيحِ
وَطَنِي عَلَى قُضْبَانِ الحَدِيدِ
يُصْيِحُ يَا... يَا ذِئْبُ
كَيْفَ اغْتَالُوا فَرَحِي
كَيْفَ كَذِبُوا وَالخَدِيعَةُ اسْتَتَرَتْ
في أَقْنِعَةِ القَدَاسَةِ
كَيْفَ في أَغْلِفَةِ الرِّيَاءِ بَاعُوني
أَلَسْتَ هُنَا...
أَمَا أَبْصَرْتَ في وَهْجِ البَصِيرَةِ
كَيْفَ يَمْشُونَ فَوْقَ جِرَاحِنَا
كَيْفَ يَحْتَفِلُونَ في مَأْسَاتِنَا
كُنْ مَعِي "يَا ذِئْبُ"
وَأَصْدِقْنِي العِبَارَةَ...
كَفَنِي في كَفِّي... أَلَيْسَتْ إِشَارَةً
تَمُوتُ هُنَا...
تَمُوتُ في بِلَادِ الأَنْبِيَاءِ
مَا بَيْنَ الجُرْحِ وَالخِيَانَةِ وَالرَّصَاصَةِ
يَقْتُلُنِي البُعْدُ...
مَا بَيْنَ القَاعِ وَحَوَافِي البِئْرِ مَسَافَةٌ
إِلهِي...
مُدَّ لي حَبْلًا لِيُنْقِذَنِي
... ... ...
مَا بَيْنَ حَبْلِ الغَسِيلِ وَحَبْلِ المِشْنَقَةِ
وَشَظَايَا الرَّصَاصِ
وَالقَذَائِفِ
تَتَطَايَرُ أَجْزَاؤُكَ في الرِّيحِ...
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق