مقدَّمة: تقعُ هذه القصَّة في 24 صفحة من الحجم الكبير، إصدار ( دار الهدى . ع . .
زحالقة - كفر قرع) - سنة 2018، ووضع رسومات القصة الفنانة
التشكيليَّة منار نعيرات .
***
مدخل:
تتحدَّثُ القصَّةُ عن نحلةٍ اسمها
سالي، أطلق الكاتبُ عليها هذا الإسم، وهي غريبةُ الأطوار تختلفُ عن أترابها من
النحل، ودائما تكثرُ من الشّكوى
والتَّذمُّر وتنتقدُ كلَّ شيء ولا يُعجبُهَا شيء.. وكانت مملكةُ النحل
تعيشُ حياة هادئة وسعيدة ومنتظمة وبأنضباط تام، والأمور تجري دائما بشكلٍ صحيح
وسليم بين أفراد خلية النحل، وكلُّ فرد في الخليَّة يؤدِّي عمله بدقّةٍ، وخاصَّة
العاملات اللواتي يعملن دائما بنشاط وإتقان وعلى أحسن ما يكون من دون اعتراض أو
تذمُّر. وقد انتبهت كبيرةُ العاملاتِ في خلية النحل لسلوك النحلة سالي غير الطبيعي وغير المنطقي؛
فدعتها لجلسة من أجل التفاهم ومعالجة مشكلتها،
وعاملتها بأدب واحترام، وقالت لها: إختنا النحلة سالي إنَّ جميعَ الكائناتِ والمخلوقات
تحسدُ مملكة النحل على انضباطها وحسن ودقةِ نظامها الحياتي، وجو المودَّة
والمحبَّة والإحترام الموجود بين أفرادها.. ولنشاط العاملات الدؤوب والمنقطع النظير
فيها، فمملكةُ النحل هي النموذجُ المثالي للمحبّةِ والألفةِ والتعاضد والتعاون
المشترك بين جميع الأفراد فيها، حيث يُضَحِّي الفردُ من أجل الجميع، ولا يوجدُ حسدٌ
ولا بغضاء ولا عداء بين أفراد مملكة النحل، بل دائما يعملُ الجميع بمثابرة ونشاط مستمر
وبإخلاص وتضحية لا مثيل لهم. ولا يوجد أحدٌ من أفراد خليّة النحل يتذمَّر أو
يعترض، والجميعُ يطيعُ وينضبط ويعملُ بجهد وإخلاص من أجل الجميع، ولكن لفتَ نظري
أيَّتُها الأخت سالي تذمُّركِ المستمر وكثرة شكواك واعتراضك على كلِّ شيء، وفي نفس
الوقت أنت تميلين وتجنحين إلي الكسل والخمول والتراخي.. وترفضين العملَ وإطاعة الاوامر
عكس إخوانك في خلية النحل.. وهذا الأمر غريب وَمُستهجَن ومستنكر ولم نألفهُ ونعهدْهُ
في خليَّتنا من قبل، فأرجو منكِ أن تفتحي
لي قلبَكِ، وتشرحي لي وجهة نظرك.. وتصارحيني
بكل أفكاركِ، ولماذا تقومين بهذا التصرُّف غير المنطقي وغير الطبيعي في خليتنا؟ ودعينا
نناقش معا سرَّ مشكلتك وسبب تصرُّفاتك هذه المستنكرة، ولعلَّ النقاش البنَّاء
والودِّي يأخذ نتيجة إيجابيَّة، ويأتي بإيجابات مقنعة على كلَّ ما يجول بخاطرك، ويراود
نفسكِ ويريحُكِ من العناء..
فغضبت النحلةُ سالي وزمزمت،
وطارت دائرة حول كبيرة النحلات (أعطى الكاتبُ هنا للطفل صورة للنحلة وطريقة طيرانها)
وتمتمت بغضب وكبرياء: كلُّ شيء هنا لا
يُعجبني! فلماذا عليَّ أن أعملَ دائما وبجهد وتعب وفي نفس الوقت الملكة الخاملة تبقى رابضة في
ركنها وموقعها الحصين بلا عملٍ ولا طنين..
وكل شيء يأتيها بسهولة، يأتيها طعامُها الخاص من أجود العسل، وتلقى أفضل الرعاية
والعناية، ودائما يحيط بها الذكورُ ويحرسُها مجموعةٌ من العاملاتِ والجميعُ يدللها،
وهي ليس لها عمل ولا مجهود سوى الأكل والتثاؤب!!
وما الفائدةُ أيضا من هذا العدد الكبيرمن الذكور
الخاملين والكسالى فهم يأكلون ما نحن نجني
(العاملات) ويسمتعون ويتمتّعون بجهدنا وتعبنا، ونحن العاملات نشقى ونطوفُ الأرضَ
ونقطعُ مساحات سحيقة، ونصل إلى أماكن نائية وبعيدة جدًا حتى نجني الرشفات والقطرات
من رحيق الزّهر، ونعود لنسكبَهُ عسلا خالصًا.. ونتجَنّدُ دائمًا للدفاع عن الخليَة،
وكل واحدةٍ منا (نحن العاملات) تُضَحِّي بنفسها، فلتذغ العدوَّ المهاجمَ وهي تعلم
أنَّ في هذا الأمر موتها، فنحنُ العاملات منا من يعمل ويجني العسل، ومنا الحارساتُ،
ومنا المسؤولات عن كلِّ شيء، عن الطعام
والدفاع والحراسة، وفي نهايةِ المطاف لا ننال جزءًا بسيطًا من الذي تنالهُ وتحصلُ عليه
الملكةُ وذكورها من الدلال ولا حتى الطعام! إنهم يعيشون في رغدٍ وراحة واسترخاء...
بينما نحنُ لا نعرف الراحة والإستقرار، وليس في هذا الأمرعدل أبدًا.
((ويعطي الكاتب هنا للطفل ولكل قارىء صورة كاملة وبجمل بسيطة عن حياة خلية النحل ونظامها وأنواع النحل حسب الشكل
والفوارق البيولوجيىَّة ونوع الوظيفة
والمهمة الملقاة على كل نوع منها: "الملكة، العاملات، الذكور")) .
ثمَّ صمتت النحلة سالي، وعادت تطنُّ
بغضب وكبرياء، بينما جلست النحلةُ العاقلة (كبيرة العاملات) تنظرُ إليها وتتأملُ
حركاتها وتصرفاتها بإشفاق، ثمَّ همسَت لها
بمودَّة وحنان: هل انتهى كلامُك أيتها الأختُ الصّغيرة؟
فأجابتها النحلةُ سالي بغضب: لست صغيرةً، أنا نحلةٌ ناضجة
وقادرة على فعل كلِّ شيء، لست خاملةً ولا
طفيليَّة كملكتكِ القابعة هناك وذكورها المتثائبين حولها..
فتبسَّمت لها النحلة الكبيرة وردت عليها بكلِّ أدب: نعم أنت نحلة ناضجة في
فريق عاملاتنا البطلات ويحقُّ لك الفخر بذلك، لذلك أردت أن أذكِّرك أن كلَّ عضو
وكلَّ فردٍ في مملكتنا له عملهُ وأهميَّتهُ، فالملكة هي المسؤولة عن وضع البيض
لينشأ جيلٌ جديد في الخليةِ، وأما الذكور فعليهم تقعُ مسؤوليَّة إخصاب الملكة،
والعاملات لهنَّ الفضلُ والشرفُ الأعظم والأكبر، وهو شرف العمل والكفاح والتضحية
من أجل الجميع..
((تمثلُ النحلةُ الكبيرة هنا
وترمز إلى الأب أو الأم أو المسؤول في كلِّ عائلة، وفي كل مجموعة ومجتمع.. والتي
ترد على تسرّع وتهوُّر وطيش ابنها أو بنتها بحكمة ورزانة وهدوء.. وتحاول أن تثنيه
أو تثنيها عن الفكر الخاطئ والتصرف الأهوج والأرعن والسلبي بكلمات جميلة ومهذبة ومقنعة، وبأسلوب تربوي حضاري، وبدون صياح وعنف))
..
فسألتها النحلةُ سالي بغضب:
ولماذا لا يعملُ الذكور إلى أن يجيءَ موعدُ إخصاب الملكة؟
فأجابتها كبيرةُ النحل بهدوء واتّزان:
لأنَّ الذكورَ لا يملكون قوَّة العاملات وصلابة أجسامهنَّ، ولا قوَّة أجنحتنَ، ولا قدراتهنَّ في العمل.. لأنهم
لم يُخلقوا لهذا الأمر مثلنا –
(يتحدث الكاتب هنا بشكل تلقائي
وعفوي عن الخالق جلَّ جلالهُ الذي وضع في
كل مخلوق وكائن حي ميزات وصفات معيَّنة، وقدرات وطاقات تختلف عن الآخر، وكل شخص خلقة الله لوظيفة ولعمل
ومجال معين- حسب مبناه البيولوجي والعقلي - لا يستطيع كائن آخر من نوع آخر أن يعمله ويتقنه،
وحتى بين البشر أيضا ومن نفس النوع تختلفُ القدرات والطاقات عندهم.. وهذا الأمر يبدو ويظهرُ جليًّا بين أفراد
خليّة النحل، ويتجلى إبداع الخالق وعظمته.. وهذا ما أراد أن يقوله الكاتب من خلال
هذا المشهد والحوارالذي دار بين كبيرة العاملات والنحلة سالي))...
وتضيف كبيرة النحل مبينة وموضحة:
وأيضا الملكة يا عزيزتي لم تخلق للعمل مثلنا، فكلُّ شخص خلقَ ووجدَ لهدف وعمل
ورسالة معيَّنة، ولديهِ قدراتٌ تتلاءمُ
لما خُلِقَ لأجلهِ من المهمَّات.
فقالت لها النحلةُ سالي بسخرية: إنها
فلسفةُ الخاضعين والمستسلمين! أما أنا فلا أعملُ من أجل غيري، وسأتركُ الخليَّة منذ
الآن، وسأعمل من أجل نفسي فقط، وسآكلُ من تعبي وما أجنيه، ولن أسمحَ لأحدٍ غيري أن
يأكلَ تعبي بعد اليوم.
فأجابتها كبيرةُ العاملات: حسنٌ؛
أنت حُرَّة، وبإمكانكِ أن تعملي ما يطيبُ ويحلو لكِ، ولكن عندي نصيحةٌ لك وهي: أن لا
تتركي أخواتك النحلات، لأنَّ حياة الوحدة صعبة وموحشة ومملة... وأخطارها ومتاعبها أكبر
ممَّا تتصوَّرين، وعليكِ أن تتذكري أنَّ بابَ خليَّة النحل سيبقى مفتوحا أمامك في
كل وقت إذا ما قرَّرتِ العودة في يوم ما..
فشكرتها النحلةُ سالي، وطارت
مبتعدة خارج الخليَّة، والنحلة الكبيرة
وقفت تتابعُها وبنظرات الحزن والإشفاق، وتردِّدُ في وجدانها: هداكِ الله يا
اختي الصغيرة.
بعد هذا السيناريو والحوار الدرامي بين كبيرة العاملات والنحلة سالي؛ ابتدأت
النحلةُ سالي في رحلة الحريَّة والانطلاق كما كانت تظن وتعتقد.. وبدأت تنتقلُ من زهرةٍ إلى أخرى في الإطار
المحيط القريب من الخليّة، بيدَ انّها لم تحظَ برشفةِ رحيق واحدة تسكتُ بها جوعَها
وسغبَها، فكلُّ الزهور القريبة قد جنت رحيقها العاملات، ويجب عليها أن تصلَ لأماكن
بعيدة للبحث عن رحيق... فطارت وطارت إلى أن بدأت تشعر بالتعب والإرهاق؛ لأنَّ
جناحيها لم يعتادا الطيران لمسافات طويلة حيث كانت ترفضُ دائما مشاركة أترابها
وزميلاتها في الطيران والعمل المشترك وجني الرحيق.. وفي طريقها ورحلتها هذه شاهدت
العديدَ من المخلوقات وبأشكال وأحجام وأنواع مختلفة، ولفت نظرَها كثيرًا مخلوق
رمادي اللون بحجم النحلةِ، ويشبه النحلة كثيرًا بتركيب جسمه الخارجي، ويطيرُ ويعض
مثلها، ولكنهُ لا يقتربُ من الزهور! فاقتربت منه والقت عليه التحيَّة والسلام،
وعرَّفتهُ على نفسها: (مرحبا أنا النحلة سالي)
فأجابها المخلوق.. أو بالأحرى الحشرة التي
تشبهها: "وأنا الذبابة" ..
فقالت
لها النحلةُ: ما لي أراكِ وحيدة أختي الذبابة ؟
فأجابتها الذبابةُ: نحن لسنا مثلكم معشر النحل إننا نعيشُ بالقرب من بعض، ولكن كل واحدة منا مستقلة في حياتها،
ومسؤولة عن نفسها فقط .
فأجابتها النحلة سالي: ما أروع هذا، وأتمنى أن
نكون كلنا كذلك معشر النحل، كنت سأشعر بشيء من الحريَّة.
فأجابتها الذبابةُ: أنتِ أغربُ نحلة أصادفها في
حياتي! لأنَّ النحلات لا تحبُّ الإنفراد والعزلة، بل تفضلُ الحياة المشتركة والجماعيَّة
والتعاون المشترك..
فقالت لها النحلةُ سالي: نعم..
نعم.. لذلك تركتُ الخليَّة وقررتُ العيشَ لوحدي، هل تسمحين لي أن أرافقك؟
فأجابتها الذبابةُ: ولكن حياتنا
تختلف عن حياتِكِ.
فقالت النحلةُ: دعيني أجرِّب..
وافقت الذبابةُ على طلبها، فطلبت
منها النحلةُ أن تدلها على مكانٍ تجني منه طعاما لأنها جائعة..
فقالت لها الذبابةُ: أنتِ اليوم
ضيفتي، تعالي لتشاركيني طعامي..
فشكرتها النحلةُ على لطفها،
وطارت الذبابةُ والنحلة وراءَها، حتى وصلت إلى جيفة يتجمَّعُ أسرابُ الذباب وقطعان
الديدان عليها، إقتربت الذبابةُ من الجيفةِ وبدأت تمتصُّ من لحمِهَا المتعفّن،
وطلبت من النحلةِ أن تشاركهَا في هذه
الوجبة..
فاستغربت النحلةُ، وقالت لها: أهذا
هو طعامُكم؟
فقالت لها الذبابةُ: نعم وإنه
طعام لذيذ.
فتأملت النحلةُ مضيفتها الذبابة وهي
تشارك الديدان أكلَ اللحم النتن، وبدأت تصابُ بالدوار من الرائحة المنتنة
والقاتلة، فقالت بغضب: أيَّتُها الذبابةُ.. خذي منَّي حكمة لم أنتبه إليها من قبل:
"إنَّ مَن اعتادَ أكلَ العسل لن يقبل
أن يأكل لحم الجيف.. واعلمي إنَّ النحلة تفضِّلُ الموت على أن تنزلَ ضيفة على
ذبابة "(صفحة24)...
((إنها لحكمة رائعة هنا على لسان النحلة... ومفادُها: أن الإنسانَ النظيف
والأبيّ وعزيزالنفس والشَّريف وحسن الصِّيت... والذي اسمهُ وسمعتهُ كالمسكِ والعنبر وكالزهور الفوَّاحةِ.. طعامُهُ
يكون العسل والشهد.. أي زملاؤه وأترابه ومحيطه وحياته هم العسل والشهد والرائحة
الجميلة والعطرة، ودائما يجلس مع الأشخاص
الأفاضل والمحترمين.. واعتاد على هذا النمط
من الحياة المستقيمة والنظيفة والفاضلة سنين طويلة؛ ومن الصعب بل المستحيل أن يُغيِّرَ
ويُبدِّلَ ثوبَهُ بسرعة ويرتدي ثوبًا آخر لا يلائمه، ويختلط بأراذل القوم
وأوباشهم، ويختار الرّوائح النتنة بدلَ رائحة
العطور والمسك والعنبر...
((إنَّ العسلَ والشهدَ والزهورَ
العطرة ترمزُ أيضا للوطنِ المعطاءِ والجميل والرائع... وأن الذي يحبُّ وطنه وَوُلِدَ
وعاش فيه سنوات طويلة فمن الصعب عليه أن يتركهُ ويعيشَ في بلدٍ وقطر آخر.. وسيكونُ
طعمُ الحياة ورائحتها هناك بالنسبةِ له كالجيف المنتة)) ...
وبعدها مباشرة طارت النحلة سالي
عائدة إلى خليَّتها وهي تردِّدُ: "لا حريَّة لأحدٍ بعيدًا عن أهله وإخوانه
وبيته"..
وتنتهي القصّة هنا. وفي الجملةِ الأخيرة يلخصُ الكاتبُ فحوى وهدف ورسالة
هذه القصة.. وهي حب الوطن والبقاء فيه، والتّشبُّث بترابه المقدس، وعدم الرحيل والهروب
من الوطن رغم كل الظروف والصعوبات والمحن التي تواجه الإنسان في وطنه...
والجملةُ الأخيرة من القصّةِ عبارة عن شعار يحملُ
في طيّاته مضمونا وموضوعًا كبيرًا ومهمًّا.. فهي ترمزُ أيضا إلى الشعب الفلسطيني
الذي بقي في وطنه وعلى تراب الآباء والأجداد، ولم يرحل ويغادر البلاد رغم كل
الظروف والمحن والمآسي التي واجهته من عام 1984 إلى الآن .
***
تحليلُ القصَّة :
كُتِبَت هذه القصَّةُ بلغةٍ أدبيَّةٍ جميلة
وراقية، وفي نفس الوقت سهلة وغير معقدة، وبأسلوب وطابع شائق، وهي ترفيهيّةٌ ومسليَّة
من الدرجةِ الأولى ومفهومة للطفل- في جميع مراحل الطفولة- وفي نفس الوقت تصلحُ
للكبار، وهي أيضا عميقة وثريَّة بأهدافها الساميَّة، وفيها أبعادٌ عديدة مثل: "الإنسانيَّة
والإجتماعية والثقافيَّة والتربويَّة والفكرية والوطنيَّة والحكميَّة ..إلخ"
وهذه القصَّةُ من أكثر القصص التي كُتبت للأطفال
-محليًّا- تحملُ في طياتها بالإضافةِ
للجانب الترفيهي جوانب أخرى سامية وَمُهمَّة.. وقد كتبها المؤلفُ -الشاعرُ والاديب
والناقد الكبير الاستاذ صالح أحمد - كناعنة -على ألسنةِ الحشراتِ للتسليةِ
وللترفيه، وتحملُ اللونَ والطابعَ الساخرَ قليلًا، والمُبَطّن والمغلف بالتَّورية لأهدافٍ
ومواضيع عديدة، وتذكرنا بكتاب (كليلة ودمنة) لعبد الله بن المقفع والذي كتبهُ على
ألسنة الحيوانات كتوريةٍ، ويعالجُ فيه قضايا وأمور عديدة: سياسية وإنسانية
واخلاقيَّة وغيرها.. وهذه الجوانب والأمور موجودة في هذه القصَّة على شكل توريةٍ ورموز..
وبتوظيفات دلاليَّة. وسأتناولُ كلَّ جانب وموضوع هنا بشكل منفرد ومستقل.
1 - الجانبُ الترفيهي: وهذا الجانبُ
يغطي ويهيمن على جميع صفحاتِ القصة، ويعطي للقصة جمالًا خاصًّا.
2 - عنصرُ التشويق: ويظهرُ هذا الجانبُ بوضوح من خلال أحداثِ القصَّة التي
استعرضتُها، وكلُّ قارئ سواءً كان كبيرًا أو صغيرًا يحسُّ بهذه الشيء، في تسلسلِ مجرى
الأحداث والحوار الدرامي الفلسفي والإنساني والإجتماعي فيها، والذي ينطبقُ على
حياةِ الإنسان وعلى المجتمعاتِ ككل في كل
مكان وزمان.. وهذا يجعلُ القارئَ يقرأ هذه القصة والمستمع يستمعُ إليها بشغفٍ وحبٍّ
ولهفة حتى نهايتها.. والعنصرُ التشويقي والعنصر
الترفيهي قد يتشابهان في الهدف والوظيفة؛
لأنَّ في التشويق ترفيه وتسلية
ومتعة للقارئ أو المستمع للقصَّة نفسيًّا وفكريًّا وعاطفيًّا..
3 - الجانبُ الإنساني والإجتماعي: يظهرُ هذا الجانب والمجال بوضوح في كلِّ مجرى أحداثِ القصَّة.. من خلال السردِ، ومن
خلال الحوار الدرامي بين النحلةِ سالي وكبيرة العاملات، حيث يُظهرُ وَيُبرزُ
الكاتبُ جوَّ المحبَّةِ والألفة والمودة
والتعاون المشرك بين أفراد خلية النحل، ويعطينا صورة رائعة للمجتمع الكامل
والمثالي.. وأنَّ الإنسان لا يستطيعُ أن يعيشَ حياةً طبيعية ومتكاملة وهانئة لوحدهِ، وفي انعزال عن
مجتمعهِ وعن أهلهِ وأخوتهِ وأقاربه... وبعيداعن محيطه ومسقط رأسهِ..
والقصَّةُ بشكل عام تدعو إلى
الخير والمودَّةِ والمحبَّةِ والألفةِ والتعاون المشترك بين جميع أفراد المجتمع،
كما في خلية النحل حيث يُضَحِّي الفردُ من أجلِ الجميع، ولكي يبقى النسيجُ
الإجتماعي سليمًا ومعافًى وَمُشعًّا بالجمال والإبداع وبالحياة الرغدة والهانئة .
4 - الجانبُ التعليمي والإرشادي: يتحدثُ الكاتبُ في القصةِ بالتفصيل عن حياة
خلية النحل، ويذكرُ كلَّ نوع من النحلِ في الخليَّة ما هي مهمته ووظيفته (العاملات
والذكور والملكة) وكيف يتمُّ جنيُ الرحيق من الزهور وصنع العسل من قبل العاملات،
وكيفية حياة النحل... ويتحدثُ أيضا عن الذباب
ونوع طعامه.. وهذه المعلموات البيولوجية الهامَّة يدخلها الكاتبُ إلى ذهن وعقل
الطفل بشكل تلقائي ومباشرمن خلال أحداثِ القصةِ والطابع الحواري الذي فيها ..
5 - الجانبُ الفلسفي والحكمي: يظهرُ في عدة مشاهد ومواقف دراميّة في
القصَّة، وخاصَّة في نهايتها.. وقد أشرت لهذا الأمر مسبقًا.
6- الطابعُ الفانتازي الخيالي:
القصَّة كلها من بدايتها إلى نهايتها فانتازيّة خياليّة (كتبت على لسان الحشرات)
7- المستوى والطابعُ الفني والجمالي: هذه القصَّةُ على مستوى جمالي وفني
عال وراق في كيفيَّةِ حبكها ونسجها، وبلغتها الجميلة المُنمَّقة، والتفنن في صياغة
مشاهدها وأحداثها الدرامية، ويستشفُّ ويلمسُ هذا الشيء كلُّ قارىء ذكي ومثقف يعرفُ
ما هو الأدب والإبداع، ويعرف أن يتذوق الأدب الجيد- سواء كان شعرًا أو قصة...
وهذه القصَّة ليست تقريريَّة أو مجرَّد
مقال سردي.. ولا نحسُّ كأنَّ أنسانًا يكتبُ موضوعا إنشائيًّا أو يقدمُ معلومات
وتقريرًا لحدَثٍ معين، بل هي عمل أدبي فني متكامل ورفيع المستوى من جميع النواحي..
والكتابةُ للاطفال بحدِّ ذاتها هي أصعبُ أنواع الأدب، وليسَ كما يتوهَّمُهُ البعضُ:
أنَّ قصصَ الاطفال هي أسهلُ جانِرٍ في مجالِ الأدب ومن السهل جدًّا الكتابة في هذا
المضمار ..
8 - طابعُ الإيمان: يظهرُ هذا الجانبُ
والموضوعُ عندما يدورُ النقاشُ والحوارُ بين النحلةِ سالي التي ترفضُ العملَ والإنصياع
لنظام الخليةِ، وبين كبيرة العملات، فتجيبها كبيرةُ العاملاتِ لتفحمها وتقنعها حتى
تعدل عن رأيها الخاطىء: إنَّ كلَّ فرد وكل
مخلوق في الخلية خُلِقَ لعملٍ ولمجال وإطار معين، ويختلفُ عن الآخر حسب نوع جسمه وقدراته وطاقاته... فالعاملات لهن وظائف معينة،
والذكورُ لهم وظيفة محدّدة أيضًا لا تستطيعُ العاملات أن يقمن بها لأنهن لم يخلقن
لهذا، والملكة أيضا لها دورٌ كبير ووظيفة لا يستطيعُ باقي أفراد خلية النحل أن
يقوموا بها، وهي وضع البيض لإستمرار بقاء الخلية... فاللهُ خلقَ لكلِّ شخص ولكل
كائن قدرات وطاقات تؤهله لمجال معين يختلف عن الآخر.. ويظهرُ في هذا الصَّدد وبوضوح
حكمةُ الخالق وإبداعُهُ وقدرتهُ وعظمتهُ.
9- الجانبُ الوطني والقومي: إنَّ معظمَ القصصِ المحليَّةِ التي كُتِبت
للأطفال قد تخلو من هذا الجانب، والأسبابُ معروفة للجميع، وخاصة الكتب والمؤلفات
التي يصدرُها الكتابُ والشعراءُ الذين يعملون في سلك التعليم وفي المكاتب والوظائف الحكوميَّة في الداخل،
وحتى الذين يكتبون النقدَ الأدبي والذين
يتبوَّءُون الوظائف السلطويّة في شتى المجالات والمرافق، وخاصة المحاضرون في الجامعات، فيبتعدون عن كلِّ فكر وحِسٍّ وإنجاز وإبداع وطني، ويتجاهلون عن قصد كلَّ كتاب وكل
ديوان شعر يصدر لشاعر وأديب وطني صادق ومناضل حتى لو كان في القمَّة، ولا يكتبون
عنه كلمة واحدة، وذلك حرصا على وظائفهم من قبل السلطة كما يبدو، وهنالك العديد من
الأمثلة على ذلك.. ولا حاجة هنا لذكرها.. وينطبق هذا الامر أيضا على معظم وسائل
الإعلام المحليّة عندنا في الداخل- السلطويّة أو المستقلة شكليًّا، والمسيَّرة
والموجّهة من قبل السياسةِ السلطويّة والتي تدور في إطارها وتمتثلُ لنهجِهَا المعادي لقضايا
الشعب الفلسطيني العادلة، ولكلِّ فكر ولكلِّ عمل أدبي وثقافي وطني إبداعي.. ولقد
صدر عندنا العديدُ من الأعمال الأدبية والشعريَّة الراقية -محليًّا- لكتاب وشعراء وطنيين مناضلين
شرفاء وصادقين، ولم يكتب عن هذه الأعمال وعن أصحابها الشرفاء حتى الآن أيُّ نُوَيقِدٍ
محلي من الذين أعنيهم.. والذين سيكون مآلهم ومصيرُهم غدا مزبلة التاريخ بإذن الله.. ولن
تنفعهم وظائفهم السلطوية التي حصلوا عليها مقابل جبنهم وتخاذلهم وصمتهم الطويل..
وانحرافهم عن الخط الوطني والإنساني الشريف.
وأعودُ إلى القصةِ وللجانب الوطني حيثُ يظهرُ واضحًا ومشعًّا في عدةِ مشاهد
ومواقف في القصة منها، مثلًا :
عندما يتحدثُ ويصف الكاتبُ خلية
النحل وجوَّ المحبة والتعاون الموجد فيها، و يريد أن يقول: إنَّ الخلية تمثِّلُ الوطنَ
المُتكامل بكلِّ شرائحهِ ونسيجهِ الإجتماعي وأبعادِهِ التكامليّة.. وعندما تتركُ
النحلةُ سالي خليتها لتبحثَ عن حياةٍ أفضل وحرية أوسع.. فتجد العكس؛ حيث لا تستطيع
أن تعيشَ لوحدها، فترجعُ مرغمة إلى خليتها بعد ندم كبير..
ويريدُ الكاتبُ أن يقول: إن
الوطنَ هو كل شيء للإنسان، والإنسان بدون وطنه لا يساوي أويعني شيئًا حتى وإن حقّقَ نجاحًا
ماديًّا كبيرًا في بلاد الغربة.. فالطعامُ
الذي تتناولهُ الذبابة دائما وهو الجيف المنتنة -كما ورد في القصَّة- وطلبت من
النحلةِ سالي أن تشاركها في هذا النوع من الطعام ولم تستطِع؛ لأنها غير معتادة على
هذا النوع من الطعام، ويرمزهذا إلى الحياة المادية والنجاح المادي وجمع الأموال في
الغربة وبناء القصور والفيلات واقتناء السيارات الفخمة والباهضة الثمن...إلخ، ولكن
كل هذه الأشياء والأمور المادية في بلاد
الغربة هي مثل الجيف لا تساوي شيئًا، ولا تحقق السعادة الحقيقيَّة المثاليَّة للإنسان الذي
يعيش بعيدًا عن وطنه. وخليةُ النحلِ هي الوطنُ الجميلُ والرائعُ والسَّاحر والمُشِعُّ
بالخير والسعادةِ والمحبة والوداد.. والعسلُ والرحيقُ هو الحياةُ الجميلةُ والهانئة
والإستقرار النفسي والسعادة الروحية
والنفسيَّة التي يعيشها ويحسُّ بها الإنسان داخل وطنه وبين أهلهِ وأحبابه وأصدقائه، ولا شيء في الدنيا
بإمكانه أن يكون بديلا للوطن، وكلُّ الإنجازات المادية وحتى المعنويّة التي يحققها
الإنسانُ خارج وطنهِ وبلاده وهو يعاني المرارةِ والألم ونار الإغتراب والبعد... هي
كالجيف المنتنه - ( طعام الذباب والديدان)
.
ولم يخطئ أميرُ الشعراء أحمد شوقي عندما قال :
( وطني لو شغلتُ بالخلدِ عنهُ نازعتني إليهِ في الخلدِ نفسي )
***
الخاتمة :
إن هذه القصَّة ناجحة وعلى
مستوى عالٍ من جميع الجوانب والمقاييس النقدية والموضوعيّة والذوقيَّة، وتجتمعُ
فيها كلُّ الأسس والركائز الهامَّةِ لتجعلَ منها عملًا إبداعيًا مميَّزًا ورائدًا للأطفال
وللكبار..
كتبَ ونسجَ الكاتبُ أحداثهَا - كما وردَ أعلاه - على لسان الحشرات وأدخل فيها عنصرَ الحوار (ديالوج) بشكل مكثَّف
ومتوازن.. ليضيفَ للقصَّةِ أضواء وألوانًا وجماليَّة خاصة وحيويَّة وديناميكيَّة وحياة
نابضة... ينسجمُ ويتفاعلُ معها كلُّ من يقرؤها أو يستمع إليها، وخاصّة الطفل
الصغير فيعيشُ بدورِهِ أجواءَ القصَّة
بحذافيرها وبشكل تلقائي، ومع كلِّ مقطعٍ ومشهدٍ
من فصولها وأحداثها يوظفُ الكاتبُ فيها بعضَ
الحشرات) (النحل والذباب)) كدلالات ولأهداف معيَّنة، ويرمزُ بالنحلةِ سالي والتي هي
بطلة القصة والمحور الأساسي فيها إلى الشاب الغض والمراهق والطائش والعاق
والمتمرِّد على عائلته وعلى جوِّ ونمط حياةِ الأسرة والمجتمع الذي لا يعحبهُ،
فيترك البيت ويخرج ليعيش حياة إنفرادية ومستقلَّة يتوقعها أفضل وأحسن، وذلك قبل أن
يكتمل نضوجهُ الفكري والجسدي، وقبل أن يكتسب أي تجربة وخبرة بالحياة، وقبل أن تصقلهُ
وتهذبهُ الخطوبُ والدُّهور.. فيصطدم بالواقع المرير، ويواجهُهُ الكثيرُ من
الصعوبات والمضايقات، ويتدهورُ وضعهُ كليا (المادي والنفسي والصحي والإنساني) ولا
يجد من يسعفهُ ويخرجهُ من الدوامةِ والحلقة اللولبيَّة التي وضعُ نفسه فيها
بإرادته، فيضطر إلى أن يرجعَ إلى إهله وبيته.. ويفرح أهله كثيرًا بعودته، ويأخذونه
بالأحضان.. ويعيش من جديد بين أسرتهِ
معزَّزًا مكرَّمًا ومدللًا..
والجديرُ بالذكر أنَّ قصّة
النحلة سالي، وخروجها عن عالم الخلية، تُشبهُ كثيرا قصَّة الولد الضال التي وردت في الإنجيل،
والذي لاقى الكثير من الصعاب والأهوال في بلاد الغربة، لدرجة أنهُ صار من شدَّة
الجوع يشتهي ويتمني أن يأكلَ ثمارَ الخروب
التي كانت تأكلها الخنازير، فيضطر بعد رحلة إغتراب -وبمحض إرادته- أن يرجع إلى أهله وإلى
العز والدلال الذي كان يتمتع به، ويعيش حياة رغيدة كأولاد الملوك ..
وترمزُ النحلةُ سالي أيضًا إلى كلِّ إنسان لا
يعرفُ قيمة وطنهِ ويفتقرُ للمشاعر الوطنيَّة الجيَّاشة، فيترك الأوطانَ ويغترب طمعًا
بوجود فرص عمل متوفرَّة في الخارج وحياةٍ أجمل وأفضل مما في وطنه، ولكنه في الغربةِ
يذوقُ الأمرين، ويخيبُ ظنهُ كليًّا، وتتهاوى أحلامهُ "الدونكيشوتيَّة" فيضطر للرجوع إلى بلاده ووطنه لينعمَ بالدفءِ
والحنان والحب بين أهله وعائلته، والذي
كان يفتقدهُ كليًّا في الغربة ...
وتنتهي هذه القصة نهاية إيجابَّة جميلة
وسعيدة (كقصة الولد الضال) برجوع النحلة سالي إلى خليتها ومسقط رأسها ووطنها
الأول.. فتدخلُ نهايةُ القصَّة على هذا النحو البهجة والغبطةَ والسرورَ والأمانَ
والإسقترارَ النفسي إلى قلب ووجدان الطفل البريء .
(بقلم : حاتم جوعيه - المغار - الجليل )
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق