“.. إذا كان الاستشراق الرومانسي قد باشر تأنيث الشرق بهذه الطريقة الرقيقة، والرافعة من شأن الأنثى، فإن الاستشراق المحترف، أي الموظف من قبل الإدارات الكولونيالية في لندن أو باريس، من بين سواهما، قد باشر حملة “تأنيث الشرق” بطريقة تفسح المجال لاستخدامه واستغلاله على نحو لا يخلو من ميل الرجولة لفرض هيمنتها على الأنوثة الراضخة أو “السكونية”.”
للمرء أن يزعم دون تردد أن لفظ “حريم” العربي كان، منذ العصر الوسيط، من أكثر الألفاظ المستعارة للغات الأوروبية من اللغة العربية، استقطابا للدلالات والمعاني، خصوصا المسيئة للعرب وللإسلام. لا يكمن الخلل، بطبيعة الحال، في اللفظ ذاته: إنما هو يكمن في قيمته الرمزية المعبرة لوضع المرأة العربية أو المسلمة سلبا في مجتمعاتنا.
عندما استعار العقل الاستشراقي اللفظ، فقد حوره لفظا وصوتا، فصار Harem، تلك الكلمة المثقلة بالدلالات المسيئة أعلاه، إلا أن استقطاب الكلمة لدلالات سلبية إضافية مافئ وأن تضاعف مع بداية العصر الذهبي للكولونياليات الأوروبية (البريطانية/الإسبانية/الفرنسية والإيطالية). ومرد ذلك هو شعور العقل المستشرق القادم من الأصقاع الشمالية المتجمدة بأنه عندما يلج الأقاليم الشرقية الدافئة، فهو إنما يعود لدفء المرأة، أو إلى أحضان الأم أو الزوجة: لاحظ أن الشاعر الأميركي “وتمان” Whitman عد الشرق “بيت الأمومة” House of Maternity، بينما اعتبر هو أن الشرق إنما يشكل “رحم التاريخ”Womb of history، موظفا لغة مشحونة بمعطيات “عقدة أوديب” بعد أن استعارها سيجموند فرويد، من مكتشفها ليرمز إلى حنين الرجل للأم والأمومة.
وإذا كان الاستشراق الرومانسي قد باشر تأنيث الشرق بهذه الطريقة الرقيقة، والرافعة من شأن الأنثى، فإن الاستشراق المحترف، أي الموظف من قبل الإدارات الكولونيالية في لندن أو باريس، من بين سواهما، قد باشر حملة “تأنيث الشرق” بطريقة تفسح المجال لاستخدامه واستغلاله على نحو لا يخلو من ميل الرجولة لفرض هيمنتها على الأنوثة الراضخة أو “السكونية”. لهذا السبب، لم يتأخر ضباط الاحتلال الكولونيالي، من بين سواهم من الإداريين الإمبرياليين، في التظاهر بالدفاع عن المرأة الشرقية، وضد من؟ أقول ضد الرجل الشرقي النزق والاندفاعي والعصابي، وحماية لها منه، كما تم تصويره خطا ومبالغةً!لذا، أصر الجنرال نابليون بونابرت Bonaparte على إتخاذ خليلة حسناء له، بعد احتلال مصر، إذ كانت فكرة الهيمنة على خليلته المسكينة هذه (فاطمة) إنما ترمز للهيمنة على بلاد عظمى، كبلاد النيل. أما المنقب الآثاري الأكثر شهرة “ليارد” Layard، صاحب كتاب (نينوى وأطلالها)، فقد تعمد معاقبة كل رجل وظفه من سكان المنطقة الريفية العاملين لديه في الحفريات، جسديا إذا ما اشتكت زوجته أو ابنته منه، على أن يجري العقاب المهين علنا أمام سكان القرى المجاورة. وهكذا، حرص ضابط الاحتلال والمنقب الآثاري، من بين آخرين، على تقديم صورة لمجتمع الدولة الاستعمارية “كحامٍ للمرأة” ومدافع عن حقوقها.
بل، إن هذا بالضبط ما فعله الأميركيون حال احتلال العراق، أي عندما فرضوا على “القيادات الجديدة” التي قدمت على دباباتهم تعيين نسبة لا تقل عن الربع 25% للنسوة في أي مجلس حكم أو برلمان أو إدارة، جزءا من هذه الحملة لتصوير “الرجل الأشقر الطويل” إنسانا أكثر إنصافا بالمرأة وبحقوقها. وهذا الادعاء بـ”رحمة” المرأة والحرص على حقوقها لا يختلف كثيرا عما فعلته الإدارة الإمبراطورية البريطانية في الهند عندما منعت الهندوس قانونا من ممارسة عادة الـ”"Satee أي حرق الأرملة ذاتها طوعا، جزعا على زوجها حين تحضره المنية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق