الخميس، 4 مايو 2017

في جدل الثقافة المقارنة ،بقلم أ.د. محمد الدعمي



عندما نتفق على حقيقة مفادها أن العقل العربي دائم النزوع الى رؤية واضحة للنفس، بمعنى الميل لمعاينة نفسه عبر “مرآة الآخر”، كما هي، بلا تزويق ولا تلوين، فانه غالباً ما ينجح في أن يحقق ذلك، ليس فقط عبر قراءة الذات وإعادة قراءتها بسلوكياتها، ولكن كذلك عبر جهد فكري معقد يتطلب الحاد من الذكاء، اعتماداً على المقارنات والمقاربات. ربما كان هذا الميل الذي لا يفلت أحد من ملاحظته عبر العالم العربي وراء الاهتمام الجارف الذي نرصده اليوم عبر العواصم العربية فيما نطلق عليه عنوان “الثقافة المقارنة”، خصوصاً في المؤسسات الأكاديمية.
وإذا كان العنوان أعلاه غاية في الاتساع والشمول، فانه لابد وأن يحتوي، من بين فروع وحقول أخرى، على الدراسات الألسنية المقارنة ودراسات الأدب المقارن، من بين سواها من تفرعات الثقافة والفنون والآداب.
وحيث أن هذه هي من السجايا الإيجابية للذهنية العربية، فان للمرء أن يذهب بكل ثقة إلى أن هذا الميل لمعرفة الذات عبر مقارنتها ومقاربتها مع “الآخر” إنما هو ليس ظاهرة جديدة، بدليل عناية الثقافة العربية الوسيطة بالترجمة والتعريب من مختلف لغات وثقافات العالم الحية عبر ما سمي العصر الذهبي للحضارة العربية الإسلامية. لكن رغم اختلاف الآراء وتناقضها حول هذا الموضوع، إلا أن هذا النزوع قد اعتمد آليات وأنشطة التعريب أولاً، بهدف الاطلاع على ما قدم “الآخر”. وإذا ما اندرجت في منافع هذا النزوع الفوائد المعرفية العامة والمتخصصة عن الأمم الأخرى، فان للمتابع أن يفترض، بقدر كبير من الثقة بالنفس، أن العقل العربي قد رغب في أن يعرف بدقة أين تقف ثقافته القومية الإسلامية حقبة ذاك، “مقارنة” بسواها من ثقافات العالم الكبرى، من الصين والهند وبلاد فارس، الى بلاد الإغريق وبيزنطة والروم والفرنجة.
وحيث لم يكن ذلك الأمر من الميزات الحيوية لثقافتنا فقط، فانه قد شكل صورة دقيقة تؤشر الوعي الوسواسي بالذات: فكيف يستطيع المرء أن يعي ذاته، من دون أن يقارنها مع الآخر، لاسيما الآخر المختلف او المتفوق.
أما ما خلفه هذا النزوع الوسيط لنا اليوم، فانه أبقى جذوة حب الاطلاع عبر المقارنات والمقاربات متوقدة، لمعرفة الذات ولتبيان سجاياها ومثالبها كذلك بهدف التصحيح والتصويب، بلا ريب. أما ما تركه هذا النزوع العربي القوي لأوروبا وللعالم، فانه قد حفظ لها تراثها الثقافي الإغريقي/ الروماني القديم، ثم أعاده إليها عبر الأندلس وصقليا.
وبالارتجاع الى جوهر هذه المناقشة، لا يمكن للمرء استغراب التيار الجارف الذي تحياه الثقافة المقارنة في العالم العربي اليوم، بكل الحقول الثقافية والفنية والعلمية عموماً بتركيز خاص على العناية بالدراسات المقارنة، خصوصاً على مستوى الدراسات الأكاديمية الرفيعة.
هذا اتجاه فكري وذوقي يستحق الرصد والاهتمام والرعاية من قبل أولي الأمر، وسراة القوم لأنه يندرج في جهد العقل العربي الفطن لمعرفة نفسه، ثم، والأهم من ذلك، لرسم صورة ذاتية للنفس: صورة دقيقة المعالم تستحق الاعتزاز والإشاعة والعكس محلياً وإقليمياً وعالمياً.
لذا فأن “الثقافة المقارنة” مهمة للغاية، ليس لمعرفة وتشخيص الذات فقط، وإنما كذلك لرسم صورة ذاتية دقيقة المعالم على سبيل تقديمها لــ”الآخر”، بناءً على تتبع التوازيات والتقاطعات، رغم وجود الكثير من اللغط والمفاهيم الخاطئة والمنظورات الجاهزة المسبقة التي شوهت “الدراسات المقارنة” واختطفتها من حقل عملها الصحيح، لاسيما عبر الأكاديميات العربية، درجة إجهاضها وإحالتها الى حقول بحثية مثقلة بالنرجسية وباطراء الذات وبالخيلاء المفرط، دع عنك ذلك الميل القوي لحرفها عن أهدافها الأساس الى التفضيلات واعتماد درجات المقارنة المعيارية الجارفة، على سبيل إطراء الذات.
من هنا جاءت بواعث العارفين بهذا الحقل الحيوي من النشاط الذهني بالعمل على إزالة بعض الأخطاء وتصحيح البعض الآخر ليمنعوا التمادي بما جاء أعلاه حتى حدود الانحياز وضياع الحيادية، بل وفقدان رؤيا الدراسات المقارنة الجوهرية.
* كاتب واكاديمي عراقي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق