إن أية مراجعة لــ”سيرة حياة القارئ” لن تخفق في الكشف عن أشكال متعددة من القراء، صعودًا إلى ما يمكن أن أطلق عليه عنوان “القراءة النقدية”، وهي الأسمى من بين أشكال القراءة: كقراءة التهجي التي دشنّا جميعًا أشواط حياتنا مع النصوص الابتدائية بواسطتها.
أدعوك أخي القارئ العربي أينما كنت إلى احتساب الساعات التي قضيتها وأنت “تقرأ” مذ شببت حتى شبت، خاصة إن كنت خريج جامعة أو دراسات عليا. لا بد وأنك ستصاب برجة وعي، إما تجعلك تندم على هدر الساعات الطوال في القراءة (إن لم تفقه قيمتها المعرفية وأبعادها الثقافية والذوقية الأخرى)؛ وإما تجعلك تتبجح بأعداد النصوص التي قرأتها خلال سني حياتك. وفي الحال الثانية، تجد أعدادا كبيرة من القراء الفطنين الذين لا يقرأون فحسب، بل يعملون جاهدين على اقتناء الكتب والنصوص المفيدة والثمينة التي تأثروا بها لتشكيل مكتبة منزلية يتباهون بوجودها في غرف الاستقبال، بدلًا عن الأواني والمزهريات التي لا يملك قليلو القراءة سواها للعرض أمام زوارهم وضيوفهم.
وإن شئت أن ترصد هذه الظاهرة في حياتك الآن على نحو خاص، إذ يعيش فعل القراءة جزرًا فظيعًا في عالمنا العربي، على عكس ذلك المد العظيم الذي امتد عبر أواسط القرن الماضي عندما كان القراء الفطنون يتبارون بأعداد الكتب والمصنفات التي كانوا قد قرأوها.
إن أية مراجعة لــ”سيرة حياة القارئ” لن تخفق في الكشف عن أشكال متعددة من القراء، صعودًا إلى ما يمكن أن أطلق عليه عنوان “القراءة النقدية”، وهي الأسمى من بين أشكال القراءة: كقراءة التهجي التي دشنّا جميعًا أشواط حياتنا مع النصوص الابتدائية بواسطتها. وإذا كان هذا الشكل من القراءة يدربك ويدرب عينيك على التعامل مع الحروف وطرائق تشكيلها وتهجيها وأساليب التعامل العقلي مع تركيباتها، كلمات، فإن القراءة الاعتيادية التي نعتمدها في مرحلة تالية من حياتنا إنما تهيمن على الأطوال الزمنية الأكبر من حياتنا مع النص المقروء. ويبدو أن أبرز أشكالها التالية لطور التهجي، هو تلك القراءة المعتمدة من قبلي وقبلك في تصفح الصحف اليومية والإعلانات التجارية والمراسلات على أنواعها. هذا هو الطور التالي الذي يتقنه كل من تجاوز مرحلة الأمية إلى مراحل الدراسة التقليدية الابتدائية والمتوسطة والثانوية ثم الجامعية. أما الطور الأسمى من أشكال القراءة، فهو الطور الذي يشعر فيه القارئ بدرجة من استيعاب النص وفهمه بأبعاده المتعددة، درجة إحساسه بأنه إنما “يحاور” المؤلف، فلا يطلع على نصه حسب. والسمو بالعقل نحو هذا الطور من القراءة لا يأتي من اللامبالاة، ولا من عدم احترام القراءة واستبدالها بالصورة والفيلم وما تضخه وسائل الإعلام وآنية التواصل الاجتماعي بالجملة، خاصة في عصرنا هذا، إذ تأكد لي بأن القراءة إنما أصبحت “جهدًا” مستثقلًا، درجة تفضيل ما يسمى بــ”القراءة السريعة” Rapid Reading، بديلًا عن القراءة الاستيعابية المفيدة. والقراءة السريعة، التي يطلق عليها عنوان Speed Reading أحيانًا، هي الشكل الذي استنبطه العقل الآدمي في العصر الحديث بالقراءة عن طريق إلقاء نظرة تصفح سريعة على النص على سبيل الفوز بخلاصاته، دون قراءته حرفًا حرفًا (أسست كلية اللغات بجامعة بغداد قسمًا خاصًّا بهذا النوع من القراء منذ بداية التسعينيات). والقراءة السريعة التي اشتهر بها الرئيس الأميركي السابق “جون كنيدي” منذ بداية ستينيات القرن الزائل إنما كانت ضرورة حيال تعاظم أعداد النصوص التي يتوجب على الإنسان الحديث الاطلاع عليها على نحو يومي، بل وساعة بساعة، خاصة بالنسبة لولاة الأمر، حيث يتوجب عليهم قراءة ما لا يعد ولا يحصى من الملفات والنصوص على سبيل البت بها على نحو مفيد وحكيم. لذا توجب على هؤلاء “استئجار القراء” والمستشارين الذين يقرأون له أو لها، ثم يقدمون له الخلاصات بأدنى عدد من الكلمات حفاظًا على وقته الثمين.
هل فكرت أخي القارئ بأشكال وأطوار القراءة سابقًا، وهل تأملت أهميتها في إقامة صرح الثقافة والحضارة البشرية، إن كان جوابك: “كلا”، فحري بك الاطلاع على ما جاء في أعلاه لتدعي بمعرفتك أبعاد القراءة على أشكالها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق