الجمعة، 17 مارس 2017

ما الثقافة الحقة ، بقلم البروفيسور محمد الدعمي



اذا كان باب الثقافة الشائعة قد بدأ بتمرير الإعلان التجاري ودعايات معاجين تنظيف الأسنان كثقافة يقبل عليها الجمهور دون الشعور بالحاجة للرجوع إلى (إخوان الصفا)، ولا إلى (الجمهورية) لأفلاطون، فإن على سراة القوم من المستنيرين ودعاة الحكمة والخدمة الاجتماعية تنبيه الجمهور إلى ما يحف بالثقافة من تشويه وخلط واختلاط لمساعدته على التمييز..عرّف واحد من أهم مفكري عصر الثورة الصناعية، ماثيو آرنولد Arnold، الثقافة بأنها “أسمى ما فكرت به أذكى العقول على مدى الدهور”، وقد عدّ هو هذا التعريف أساسًا لبناء جدل كتابة الفذ (الثقافة والفوضى) Culture and Anarchy، وهو الكتاب الذي يعتمد التنافر بين هذين العنصرين على سبيل تخيير الشعب البريطاني، بل وحتى شعوب أوروبا، بين الثقافة والفوضى في عصر كانت فيه بريطانيا على شفا السقوط في هاوية الفوضى، بسبب “تطليق” فئات واسعة من الشعب البريطاني الثقافة، ثلاثًا.
وإذا كان جدل هذا العقل الفذ قد أفاد في إغناء أمته حقبة ذاك، أسمح لنفسي أن أستعير عنوان كتابه أعلاه لمناقشة ذات الموضوع، ولكن من منظور ما أخشاه من “فوضى” تتربص بشعوبنا العربية خاصة، وبشعوب العالم، عامة.
ومرد ذلك هو ما ألاحظه من خلط وإرباك، قد يكونان متعمدين، عبر الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي، بين الثقافة الحقة، من ناحية، وبين أشباه الثقافة ومشتقات تلك الأشباه التي لا يمكن إلا أن تفضي بشبيبتنا ونشئنا إلى متاهات خطيرة، كما فعلت في أعداد كبيرة من المجتمعات الغربية، وهي المجتمعات الأولى في المسؤولية عن ذلك الخلط والإرباك وإدامته، حد عد العامة كل شيء، حرفيًّا، ثقافة: من تركيب المرق والرز، إلى تصوير إطلاق الصواريخ والمركبات الفضائية، ناهيك عن “الثقافة” السائدة اليوم هناك، وهي ثقافة إشاعة الانحراف والشذوذ الجنسي، درجة الترويج للتزاوج الرسمي بين رجلين، أو بين امرأتين.
وإذا كنت قد تعرضت لــ”صدمة وعي” من العيار الثقيل عندما قارنت بين الثقافة بمفهومها السامي الذي اعتمده آرنولد أعلاه، وبين ما يسمى بــ”الثقافة الشائعة” Popular Culture، أي بين الثقافة بصفة الفلسفة الإغريقية على سبيل المثال؛ وبين الثقافة التي تدنت حد عرض الأفلام الإباحية بوصفها “ثقافة” في علم الجنس Sexology، فإني لا أجد بدًّا من المعاونة على تنوير قرائنا من الشباب بالتمايز بين الهابط مما يطلق عليه الغربيون عنوان “ثقافة” وبين الثقافة الحقة التي ناقشها ابن خلدون في مقدمته، على سبيل المثال.
والحق، فإني بالرغم من تحمسي الشديد لعنوان “الثقافة الشائعة” على بداية سبعينيات القرن الزائل، قد اكتشفت ـ بل وتأكدت، بأن ابتكار هذا العنوان قد خدم العالم الغربي أيما خدمة لإضاعة الثقافة الحقيقية بين أكداس من “الثقافات” الملفقة أو الكاذبة. لذا، خدم العنوان أعلاه بابًا واسعًا لتمرير حتى “الأزبال” إلى المتدني ثقافيًّا من فئات الجمهور بوصفه “ثقافة”. وإذا كان باب الثقافة الشائعة قد بدأ بتمرير الإعلان التجاري ودعايات معاجين تنظيف الأسنان كثقافة يقبل عليها الجمهور دون الشعور بالحاجة للرجوع إلى (إخوان الصفا)، ولا إلى (الجمهورية) لأفلاطون، فإن على سراة القوم من المستنيرين ودعاة الحكمة والخدمة الاجتماعية تنبيه الجمهور إلى ما يحف بالثقافة من تشويه وخلط واختلاط لمساعدته على التمييز، أولًا وعلى المعرفة، ثانيًا. وكي لا تروج سوق الثقافة لمجلات الأزياء وأخبار الراقصان والمغنين كثقافة، بدلًا عن الترويج لمؤلفات أثقب العقول عبر التاريخ، توجب على المرء أن يحذر وينوه ويرشد كي لا يسقط العقل العربي الشاب في دوامة من المفاهيم الثقافية الخطيرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق