السبت، 3 سبتمبر 2016

عتبة العنوان في مجموعة ارض الحكايا لسناء شعلان




ا.د. ضياء غني العبودي

م. باحث شامل عبد اللطيف

 

التمهيد:


تشكل العنونة بابا مهما من أبواب الدراسات النقدية الحديثة التي طرقها النقاد بأطراف أقلامهم فتنبه إليها أصحاب النصوص الأدبية، فأصبحت في نصوصهم فنا وصناعة بعد ان كان العنوان لا يعطى تلك الأهمية من قبل منشيء هذه النصوص من جهة ومن النقاد من جهة أخرى،  فصار لا يقل أهمية من النص نفسه ((بوصفه المدخل أو العتبة التي يجري التفاوض عليها لكشف مخبوءات النص الذي يتقدمه ذلك العنوان)) (1) .

وقد أصبح نتيجة لذلك بمثابة البوابة الأولى التي تضيء للناقد  طريقه في سبيل الدخول إلى عالم النص والتعرف على زواياه الغامضة، فهو مفتاح تقني يجس به نبض النص وتجاعيده، وترسباته البنيوية وتضاريسه التركيبية على المستويين الدلالي والرمزي. (2)

وإذا يمارس العنوان فعله السابق في إضاءة النص والكشف عن روحه كعتبة أولية ومفتاحا ناجحا في فهم أولي للنصوص التي يتبوأ عليها، فهو من جانب آخر يمارس فعل الإغواء والتعيين والوصف (3)، واختصار النص الذي يتقدمه عن طريق الاقتصاد اللغوي الذي يتمتع به، فنحن عندما نقرأ عنوانا يتكون من لفظة أو لفظتين فانه بهذه الخاصية والميزة يستطيع ان يصف أو يختصر لنا الطريق إلى ذلك النص ، وتحديده من الضياع وعدم التحديد في ذهن المتلقي.

ونظرا لأهمية العنوان في النصوص الأدبية ودلالاته ومقاصده التي يمارسها على تلك النصوص فقد عرّف بتعاريف كثيرة تكاد تأخذ عملية فهم كل ناقد له إلا ان هناك قواسما مشتركة لا تخرج عنها هذه التعريفات.

     فمن أبرز هؤلاء(لوي هوك) الذي يعد أكبر المؤسسين للعنوانات في كتابه (سمة العنوان) الذي قدم فيه تعريفا أكثر دقة وشمولا، جاعلا إياه (مجموعة العلامات اللسانية من كلمات وجمل وحتى نصوص قد تظهر على رأس النص لتدل عليه وتعينه، وتشير لمحتواه الكلي، وتجذب جمهوره المستهدف)). (4)

اما رولان بارت فقد عرفه ((عبارة عن أنظمة دلالية سيميولوجية تحمل في طياتها قيما أخلاقية واجتماعية وإيديولوجية))(5).

ويرى جون كوهين ان ((العنوان من مظاهر الإسناد والوصل والربط المنطقي، ومن ثم  فالنص إذا كان بأفكاره المبعثرة مسندا فان العنوان مسندا إليه فهو الموضوع العام، بينما الخطاب النصي يشكل أجزاء العنوان الذي هو بمثابة فكرة عامة أو محورية أو بمثابة نص كلي))(6).

إلا ان الحديث عن العنوان ارتبط بالناقد الكبير جيرار جينت الذي يعد صاحب الجهد الكبير لهذا المصطلح وقد عرفه بقوله ((هو ما يصنع به النص من نفسه كتابا ويفرض ذاته بهذه الصفة على قرائه وعموما الجمهور أي ما يحيط بالكتاب من سياج أولي وعتبات بصرية ولغوية))(7).

وحول وظائف العنوان يحدد جيرار جينت أربع وظائف له ((وظيفة تعينيه تعطي الكتاب اسما يميزه بين الكتاب، ووظيفة تتعلق بمضمون الكتاب أو بنوعه أو بهما معا أو ترتبط بالمضمون ارتباطا غامضا ، ووظيفة تضمينية أو ذات قيمة تضمينية تتصل بالوظيفة الوصفية وتتعلق بالطريقة أو الأسلوب الذي يعين العنوان به الكتاب، ووظيفة اغرائية تتصل بالوظيفة التضمينية وتسعى إلى إغراء القارئ باقتناء الكتاب أو قراءته)) (8)،ويجد القارئ ان (( هذه الوظائف قد تضمنتها الاستعمالات الدلالية المختلفة لكلمة العنوان في الثقافة العربية  ،في سياقات شعرية وتداولية عديدة . قد تتحقق هذه الوظائف كلها في عنوان واحد، بحيث يصف المحتوى، ويوحي بأشياء أخرى، ويغري المتلقين بالقراءة، وأكثر من ذلك فهو اسم محدد للكتاب يميزه عن غيره وبعض العناوين تحضر فيها وظيفة أكثر من غيرها بسبب اختيار موضوعي، أو جمالي فني مقصود من طرف المنتج)(9).

وتمثل عتبة العنوان في القصة القصيرة علامة كتابية أدق وأعمق من بقية الفنون الأدبية الأخرى؛ وذلك لصغر حجم الفضاء الكتابي للقصة القصيرة بما يجعلها تتصدر النصوص السردية في منطقة القراءة والتلقي(10) ، فالعنوان في القصة القصيرة يشتغل كدليل استراتيجي اذ يتوافر على طاقة فائضة على النص الذي يسميه، ليغدو العنوان النواة النووية التي يتشكل منها النص(11).

 

بنية عنوان القصة أرض الحكايا:

جاء في لسان العرب لابن منظور ((الأَرْض: الَّتِي عَلَيْهَا النَّاسُ،أُنثى وَهِيَ اسْمُ جِنْسٍ. وَكُلُّ مَا سفَل،فَهُوَ أَرْض. وَيُقَالُ: أَرَّضْت الكلامَ إِذا هَيَّأْتَه وسَوَّيْتَه.))

وفي مادة (حكي) جاء ايضا ((حكي: الحِكايةُ: كَقَوْلِكَ حَكَيْت فُلَانًا وحَاكَيْتُه فَعلْت ُمِثْلَ فِعْلهأَ وقُلْتُ مِثْلَ قَوْله سَوَاءٌ لَمْا جاوزه،وحَكَيْت عَنْهُ الْحَدِيثَ حِكَايَةً. وحَكَوْت عَنْهُ حَدِيثًا فِي مَعْنَى حَكَيته. وحَكَيْت عَنْهُ الكلام حِكَايَةً))،ومن خلال الجمع بين المعنيين نجد ان الحكايا من الإعمال الشعبية التي عرفتها الأمم منذ القدم وكانت غايتها الأساسية تحقيق المتعة في النفوس والتسلية يتم تناقلها بطريقة سهلة بين الأجيال من جيل إلى جيل،وتبعا لذلك تتغير طريقة سرد هذا العمل إلا ان مضمون العمل يبقى ثابتا لا يتغير،وتمثل الحكايا الرافد الأساس لنشوء الأعمال السردية الحديثة كالقصة والرواية وغيرها.

ومجموعة سناء الشعلان القصصية (أرض الحكايا) على الرغم من حداثتها وميلها إلى تقنيات السرد الحديثة إلا انها لا تخلو من عنصر الحكاية والمتعة والتشويق.

أما عن البنية التركيبية للعنوان فقد جاء مسندا لمسند إليه محذوف، وهو – المسند – جملة اسمية، وتقدير المسند إليه (تلك ارض الحكايا، أو هذه أرض الحكايا )،وأرض مؤنثة وهي مضافة وحكايا مضاف إليه.

 

عنوان الغلاف وتشكيلاته الصورية:

لم ينشا عنوان أي نص أدبي من فراغ أو مجرد رسم يوضع على الكتاب أو النص الذي يتقدمه ،فالقاص أو الشاعر عندما يضع عنوانا لعمله لا بد ان تكون هناك خيوط تربطه بهذا العمل ،فيكون هذا العنوان مفتاحا العمل الذي يسمح لنا بالدخول إلى عالم النص وبواطنه، فان فهمنا لبعض النصوص أصبح يتوقف بشكل كبير على فهم عنوانها أو العكس، فقد( شاع استخدام العنوانات البليغة شيوعا يوشك ان يؤسس ثقافة نصوصيّة تخص العنوانات دون النصوص، وربما يتأسس من ذلك جنس كتابي له حدوده ومراميه وبلاغياته الخاصة)(12) ،وفي إطار هذه العلاقة المتبادلة أو الحوار بين العنوان – النص نجد ان غلاف مجموعة ( ارض الحكايا )  يشكل فضاء جاذبا للمتلقي من خلال تشكيله من عناصر وأجزاء تتضافر لتولد الدلالة التي يتأسس عليها النص القصصي من جهة ولتكون عنصر إغراء يدعو إلى الاقتناء والتعرف(13)،فالغلاف يتكون من مجموعة من الصور والرسوم والألوان فضلا عن الغلاف الخلفي للمجموعة التي تضمنت صورة الكاتبة التي بدورها قد تناغمت مع هذه الصور.

اما عن عنوان المجموعة القصصية (ارض الحكايا )فهو عنوان مرتد من داخل نصوص المجموعة– بوصفه عنوانا لأحدى قصص المجموعة - إلى خارجها متخذا غلاف المجموعة مكانا له ليضيء بطاقاته الدلالية والاشهارية النصوص التي انتخبته عنوانا. فاذا كان عنوان القصة الخارجي يعنونها ككل ليرسم الخطوط الأولية في فهم النص، فان العنوانات الداخلية تسم الأجزاء الصغرى الداخلية وتحدد مضامينها، وتوحي بها،وترتبط بها ارتباطا وثيقا ليتآزرا معا –العنوان الخارجي مع العنوانات  الداخلية – في فك رموز النص وتحديده دلاليا وحصره لدى المتلقي.(14)

ونجد في تفسير هذه الارتداد للعنوان وجعله عنوانا رئيسا لقصص المجموعة بعدما كان عنوانا لإحدى نصوص القصة هو الارتباط القوي بين هذه النصوص ،مما جعلها ترتبط بخيط واحد هو (أرض الحكايا)،ليكون عنوان المجموعة ككل.

ويأتي مكان هذا العنوان في لوحة غلاف المجموعة في وسط الغلاف إلى الأعلى، وقد كتب بلون ذهبي وجاءت لفظة ارض بخط صغير تحتها حكايا( الحـ أرض ـــــــكايا ) فلفظة حكايا احتضنت لفظة الأرض فكأن الحكايا قد أصبحت أماّ لهذه الأرض.

وقد حددت القاصة جنس عملها مجموعة قصصية رسمت بخط صغير جدا بالنسبة إلى عنوان المجموعة وضع في أعلى الصفحة من جهة اليمين، فارض الحكايا عملا قصصيا استغنى من لفظة الحكايا التي ارتبطت بالسرد منذ اللحظة الأولى له وحتى الآن وهي لاتنفصل عنه، أي ان عنوان (ارض الحكايا) كان كافيا في تحديد جنس العمل بدلالة الحكايا، فهو عمل قصصي حتى ولو لم تحدد القاصة جنس العمل ،فعنوان المجموعة عيّن العمل الكتابي حتى في صيغته التركيبية، فهناك فضاء تعيني ودلالي قد وضعه العنوان في ذهن المتلقي منذ اللحظة الأولى لعملية القراءة.

اما عن لوحة الغلاف والوانها فقد جاء هذا الغلاف بلون رمادي وهو لون يوحي بالحذر وله طاقة باهتة ومظلمة ،وفي دالة أخرى لهذا اللون انه اللون في عالم اللالون ، هو الحياد بعينه فالرمادي لا حول له ولا قوة ، واذا أردنا ان نكون أكثر واقعية هو أيضا اللاشكل، مبهم الملامح غير محدد الهوية فهو يحمل هوية الأسود والأبيض، وفضلا عن دلالاته السابقة فهناك دالة أخرى جاءت متوافقة مع نصوص المجموعة وهي ان اللون الرمادي حقيقته تتضح من خلال طبيعة تكوينه فهو خلاصة الأشياء التي أحرقتها النيران تتبخر نتيجة لذلك الماء والمكونات الأخرى في تلك الأشياء، وهذا يعني ان حقيقة الرمادي تعني العودة إلى أصل الوجود (15)،هذه الدالة للون الرمادي ناسبت الحكايا  التي ارتبط بالماضي وما يحمل من ذكريات أصبحت لا لون لها.

ثم ان هناك مجموعة صور في لوحة غلاف المجموعة جاءت متناسبة مع هذا العنوان ((فقد كان هناك موجه دلالي يسبق الشروع بقراءة النصوص ... هو تلك اللوحة التي تختزل القراءة في بؤرة معينة؛ لأنها تمثل بحد ذاتها قراءة ما للنص))، عن طريق هذه الرسوم والألوان التي أصبحت من أساسيات الفهم في العصر الحديث،اذ بلاغة الصور ((التشكيلية قد تطغي على البلاغة الكتابية في أحايين كثيرة، نتيجة تفاعل المتلقي مع الصورة بوصفها حدثا ماثلا امامه يحفز بالتخطيطات إلى مراكز الإدراك لديه إلى شيء ما))(16).

فهناك قطار قديم في ملامحه وشكله يدل على السير والاستمرار، وهناك زورق في وسط نهر، وهناك فتاة تجلس على مصطبة قديمة تشير ملامحها وسيميائها بحالة الانتظار والصبر،  وسماء ملبدة بالغيوم في طريقها إلى روي حكايا جديدة،فجميع الرسوم في اللوحة للمجموعة استطاعت ان ترسم أبعاد النص الأولية في فهم النص. هي لوحة  الانتظار والترقب بامتياز  ، ذلك ما اوحت به وكانت مصداقيته احدى قصص المجموعة التي حملت العنوان نفسه ، فهناك عجوز يحن إلى ابنته المسافرة ،  تلك الشابة الصغيرة تخيلتها تنتظر حبيبا سافر ولم يعد ،امرأة فقدت ابنها في الجهاد  ،لعله يصبغ عليها بعضا من طهره ورحمته ،رسام يرسم  إلى حبيبته المسجونة خلف أسوار غنى والدها  ، هي لوحة الفقد والانتظار وترقب الأمل .

 

وفي ظهر لوحة الغلاف قد وضعت القاصة صورتها شغلت جميع لوحة الغلاف، وقد وضعت نصا من نصوص المجموعة نفسها وبالتحديد من القصة نفسها التي اختارت عنوانها للغلاف تقول فيه ((عندما كنت صغيرة كنت احسب ان هناك أرضا للحكايا نستطيع ان نحصد الحكايا منها انى شئنا، ولكن عندما كبرت أدركت ان لا ارض للحكايا. وعندما احترفت فن كتابة القصة جزمت بعناد ان هناك أرضا للحكايا، ولكن طوبى لمن يستطيع ان يدلف الى تخومها، ويعرف السبيل إليها)).

وبذلك شكّلت هذه الصور وعنوان المجموعة والنصّ الذي وضعته القاصة في الغلاف الخلفي للمجموعة إبعادا للنص وعوالمه في ذهن المتلقي، فتصبح عملية اكتناز المعنى والدلالة لهذه العناوين والصور البوابة الأولى التي تفتح امام المتلقي، ليؤذن له بالدخول إلى بيت النصّ، فهناك مناسبة واضحة بين نصوص المجموعة ورسوماتها الصورية، ولكن هذه المناسبة تبدو واضحة للقارئ عندما يقرأ النصوص جيدا ويربط بين مضامينها ورسالتها التي أرادتها  القاصة وبين سيمياء الصور ودلالة عنوان المجموعة.

فضلا عن ذلك فان صورة القاصة في الغلاف الخلفي قد حملت وظيفة اشهارية واغرائية للقارئ؛ ذلك لجمال القاصة وشفافيتها وكأنها زليخة العصر، فالصورة بحد ذاتها قد مارست هذه الوظيفة الاغرائية والتأثيرية على المتلقي، وقد شغلت هذه الصورة جميع ظهر الغلاف وكان لونها هادئ جدا يتراوح مابين الأبيض والرمادي الشفاف وفيها دلالة على حالة الانتظار والصبر.

 

عتبة المقدمة:

تمثل عتبة المقدمة أو التصدير للكتاب عنوانا مهما في مساعدة القارئ على إيضاح النص وبيانه قبل الشروع بعملية القراءة ، فغالبا ما تكون المقدمات التي تتصدر الكتب موضحة لاستراتيجية الكتابة ومضمون النص ،او مشوقة للقارئ او تتحاور مع النص بكيفية من الكيفيات أو غير ذلك مما يساعد القارئ من الاقترابالى النصّ (17) ومعرفة خفاياه كعتبة أولية يطأها،فهي ( اقتباس أو شذرة مقتبسة من خارج النصّ ،أضحت من ملكية النصّ للإيحاء بأطيافه فهو ليس من النصّ لكنه أصبح من ممتلكاته بحكم الجوار والتشابك الدلالي )(18) فضلا عن قيمتها التداولية والاشهارية التي تمارسها على القارئ نتيجة لكاتبها ومكانته الأدبية والنقدية بين الجمهور والقرّاء فكل ذلك يسهم في رواج الجنس الأدبي،وقد رسمت هذه المقدمة بخط ابراهيم خليل وهو من النقّاد المعروفين على مستوى الساحة النقدية كما أنّ المقدمة كانت طريق مختصر وسريع لتلخيص المجموعة القصصية ووضعها بين يدي القارئ عن طريق الاقتصاد اللغوي.

 

 

عنوانات القصص:

 

1-     قصة أرض الحكايا:

تأتي قصة أرض  الحكايا من حيث ترتيب قصص المجموعة التي تبلغ ست عشرة قصة في المرتبة الثالثة عشر أي أنها في آخر المجموعة وتتحدث هذه القصة عن مجموعة من الحكايات المتخيلة ذات المشهد الواحد والرابط فيما بينها هو العنوان أرض الحكايا،وبطل هذه القصة هو ذلك الرجل الذي قضى حياته إلى جانب البحر؛لأنه يشترك معه بعدم القدرة على السمع والكلام كما هو البحر لايسمع ولايتكم،فيأتي إليه الناس وزوار البحر يبثون احزانهم ويرحلون،كان الرجل نفسه إحدى هذه الحكايا ،بل أن ّ القاصة كانت إحدى هذه الحكايا من حيث لا تدري (( لابدّ انني الآن في أرض الحكايا،هذه غاية ما حلمت به أن أكون حكاية من حكايا أرض الحكايا يالحمقي !! كيف لم يخطر ببالي أني حكاية من أرض الحكايا)) وهي كانت الشاهد الوحيد الذي يشاهد تلك الحكايات التي نلقى على البحر من دون ان تسمعها لتبقى سرّا في أعماقه السحيقة  ((فمنذ ذلك اليوم اعتدت على مراقبة السلم الحجري من نافذتي القديمة. كثيرا ما حاولت أن أسمع ما يقوله الزوار له،لكن صوت البحر وجلبة المارة وفوضى الحافلات جعلت ذلك مستحيلا ...)).

فالحكايا مختلفة ولكن الرابط الذي  يربطها جميعا هو العنوان، والبحر هو مكان الحكايا التي استطاعت القاصة تجميعها((بعد شهر كان عندي مجموعة قصصية رائعة أسميتها ارض الحكايا))، كلّ هذه الحكايا تشترك بشيء اسمه الألم، الذي يريد هؤلاء الزوار بثهّ إلى البحر؛ لأنه  الوحيد الذي يستطيع ان يحفظ أسرارهم فالبحر هو أرض الحكايا.

فالقارئ لهذه القصة يستطيع أن يقبض على فكرتها من خلال عنوانها الذي جاء عنوانا ارتداديا ومن صلب القصة ونسيجها الداخلي أي أنه يمثل خلاصة فكرة القصة، وقد جاء هذا العنوان مكتفيا بذاته له استقلاليته ، هو شفيراتها الخاصة التي مكّنت المتلقي من فكّها وتأويلها لتساعده وتكون مفتاحا له لفتح عالم النصّ، فضلا عن  الطاقة الدلالية والإيحائية التي نقلته من فضاء القصة الداخلي- بوصفه عنوانا لأحدى القصص-إلى واجهة القصة فيقتنص سلطة العنوان العام لقصته و يمارس نفوذه البصري و الدلالي على المتلقي.

فعنوان القصة يمكن أن ننظر إليه من خلال علاقته بالقصة على أنهما مركب واحد يتخذ فيها العنوان موضع (الابتداء) والنص (الخبر)، والخبر هنا المتمثل بالنص هو الذي يمدّ المتلقي بالاستعلامات عن شؤون (المبتدأ)، وهذه هي طبيعة العلاقة بين النص والعنوان، فارض الحكايا هي مجموعة من القصص وحدت بينها القاصة وربطتها بخيط واحد هو عنوانها فـ ( ذلك العجوز الذي زار البحر تخيلته رجلا قد خطف الموت زوجته الرؤوم ،ويحنّ إلى ابنته المسافرة ،تلك المرأة الوحيدة لعلها تحنّ إلى رجل يدلف إلى حياتها ،تلك الشابة الصغيرة تخيلتها تنتظر حبيبا سافر ولم يعد ،تلك المرأة المسنّة التي تمسك بطفل صغير تحنو عليه ،قد يكون الصغير ابنها الذي استشهد في ساحة الجهاد المقدس وتناجي روحه الغارقة في البحر ،تلك الحامل الحسن خلتها تشكو فضيحتها إلى البحر ،لعله يصبغ عليها بعضا من طهره ورحمته ،وذلك الرسام يرسم لوحة للبحر ،لعله يرسلها إلى حبيبته المسجونة خلف أسوار غنى والدها  ، ... آلاف الحكايا كانت في أرض الحكايا ،أعني على صخور شاطئ المنارة ). فكلّ هذه الحكايا التي نسجتها القاصة قد جمعها العنوان بلفظة ارض الحكايا.

 

2-     سداسية الحرمان:

اما عنوان سداسية الحرمان وهو العنوان الأول في قصص المجموعة،فقد جاء عنوانا لمجموعة عنوانات أو قصص مرقمة بأرقام يجمع بينها خيط الحرمان الذي يتكرر في جميع القصص وهو عبارة عن نغمة حزينة قد اختارتها القاصة لسداسيتها هذه، فلفظة سداسية هي دالة على رقم القصص ولفظ الحرمان هي الجامع بين هذه القصص.

وفيما يخص علاقة العنوان بنصوص المجموعة أو مركزية العنوان من المجموعة، فهو عنوان ارتدادي خرج من رحم هذه القصة ونصوصها،فعنوان (فتى الزهور) إحدى قصص الحرمان الستة يمكن لنا أن نقارنه بنصّ المجموعة أولا ثم نقارنه بالعنوان الرئيس لتلك– سداسية الحرمان –النصوص لنرى مدى الارتباط والعلاقة بينهما.

في هذا العنوان تخلق القاصة مفارقة  بين العنوان ونصّه، فالعنوان يكسر أفق توقع المتلقي من خلال هذه المفارقة التي تخلق مسافة جمالية في العنوان،وهي من وظائف الأديب الناجح ، فالنصوص التي تحدث مسافة جمالية في ذهن المتلقي تكون اكبر شانا وأهمية من تلك التي تكون مألوفة ومتوقعة في الوقت نفسه لدى المتلقي من احداث أي شيء،وهذه المسافة الجمالية في العنوان هي ان عنوان فتى الزهور يخيل للمتلقي أو يوحي إليه انه كان عاشقا للزهور  متمتعا بها وبجمالها وحسنها،أو أنه كان محطّ أنظار المعجبين والعشاق فتاتيه هذه الزهور وتهدى إليه تعبيرا عن حبهم وعشقهم له،إلا أن الأمر يختلف تماما عندما نقرأ هذه القصة ،فعند قراءة القصة يتغير توقعك أو تختلف لديك الصورة الأولى التي رسمتها ،ولعلّ هذا العنوان يحمل أطروحة مضادة لنصّه مثل رواية إميل زولا (بهجة العيش) غير أنها الرواية الأكثر قتامة لزولا الذي يضع بنفسه هذه الجملة المضادة قائلا (أردت قبل كلّ شيء عنوانا مباشرا (حرفيا) مثل ألم العيش لاسخر من بهجة العيش ولكنني هذا الأخير)(19) ،فعنوان فتى الزهور لا يساوي حبّ الزهور، بل العكس فتجد أن الفتى ((لا يحب الزهور نظرا لفقره وارتفاع ثمنها فانه مجبر على أن يظل غير محبّ لها ) ،إلا انه يسمى فتى الزهور؛لأنه يعمل بها ويجيد لغتها ويعرف اسم كلّ زهرة ويدلك على معنى كل لون فهو لم يحب منها شيئا،بل أن (( زهور الحبّ بالذات تهزّ قلبه الذي يخفق بشدة عندما يطالع الوجوه وهي تحمر مشحونة بمشاعر الاضطراب والحب عند تلقي الزهور العاشقة،الأنامل التي تداعب الزهور تعزف  على أوتار قلبه الدامي ،يتنهد عميقا أو يتمنى لو أن قلبا ما يهديه زهرة حب)).

ففتى الزهور يسمى بذلك لأنه يعمل في الزهور من أجل عيشته لا لأنه يعشق الزهور أو يحبها كما يوحي إلينا عنوان القصة في بداية القراءة،فهنا كمفارقة بالعنوان مع نصّه إلا أن الذي جعل هذه القصة تقع في هذا الفصل هو الحرمان،الحرمان من الحب،الحرمان من الراحة والسعادة والفرح، وقد اكتملت كل تلك المعاني من خلال العتبة العنوان و تعاضدها مع النصّ.

كذلك تشكل بقية العناوين في هذا الفصل نسيج عنوانه الرئيس (سداسية الحرمان ) الذي أرادته القاصة،فحين نختار قصة (الخصيّ) الذي كان  خادما في قصر مالكه وعنوان هذه القصة يترجم نصه فهذا الخادم – الخصيّ – على الرغم من فقدان رجولته إلا انه كان يتمتع بصفات الرجولة التي يفتقدها الكثير لا صفات الفحولة التي يتبجح بها بعضهم  ، فحين أحبّ جارية من جواري القصر وهام بها اكتشف أنها تحبّ فتى آخر حالت الأسوار بينها وبينه ، وفي ليلة اكتمال البدر قرّر السلطان أن يفترعها ،قرّر الخصي أن يساعدها على الفرار لتكون مع حبيبها ،ويكون رأس الخصي قد علّق على بوابة القصر ، من هنا يأتي العنوان ليكون دالة في فهم النّص الذي يتقدمه أولا،ومتوافق مع نصوص المجموعة ثانيا، فعبارة (الخصيّ) لها دلالة تأثيرية وانفعالية إلى جانب اكتنازها اللغوي الذي كان صورة مصغرة لمضمون النص،فهي تدل على عمق الإحساس  بالاهانة بقدر ما تترجم حرمان هذه الذات والتضحية من أجل الآخر.

وتستهدف القاصة من خلال مضمون قصة (الخصيّ) نقدا بطريقة أدبية للعقل البشري العربي ذلك العقل الذي يجعل من شهوته طموحه الأكبر حتى ولو كان ذلك على حساب حريات الآخرين ومضايقاتهم، فالتمتع بجسد المرأة أصبح مقياسا للرجولة العربية على عكس ماهو متوقع ان تكون الأخلاق والنخوة والشرف ،فهذا الخصي سمي بذلك  لأنه محروم من رجولته الجنسية  ولكنه لم يحرم من رجولته التي تحمل معاني الشهامة التي يفتقدها المجتمع بشكل جلي ، بل ان القدرة على العطاء لا تاتي من خلال الفحولة العربية التي كثيرا مايتحدث عنها العربي ويفتخر بها ، وانما تأتي من خلال المواقف ، التي ربما تصدر عن شخص فقد تلك الفحولة المتمثلة بالقدرة على ممارسة الجنس بحسب وجهة النظر العربية .

3-الجدار الزجاجي:

وتتخذ القاصة في قصة الجدار الزجاجي قناعا او رمزا لتمارس حريتها الكتابية في تشخيص عيوب المجتمع ،فعنوان القصة الجدار الزجاجي هو المكان الذي تسجن فيه الذات الإنسانية ،وهي ترى أحلامها المنكسرة إمامها من دون ان تستطيع فعل شيء،فالذات في الجدار الزجاجي تنظر إلى أحلامها ولكن لا يحق لها ان تفعل شيئا ،وهذه الدلالة للجدار الزجاجي كعنوان لا تتضح الا بعد قراءة القصة وتأملها وفي تلك اللحظة يستطيع القارئ أن يكشف عن رصيد العنوان الدلالي فيجد أن اختيار العنوان قد ضمّ تحت كتفيه دلالة عميقة كما انه قرّب علينا كلّ هذه المسافات في المتن الحكائي ،فأحداث قصة الجدار الزجاجي تتحدث عن الحرمان الذي لا يفارق هذه المجموعة بكلّ ألوانها وعنواناتها ،كما أنه حكاية اختفت من ورائها القاصة لتوجه نقدا لهذا المجتمع من خلال اشتغالها على نسق مضمر يعاني منه المجتمع العربي ،فأحداثها تدور حول ذلك الفتى الذي بدا حياته من الجدار الزجاجي وأنهاها في الجدار الزجاجي ،وهو ابن تلك المرأة التي تزوجت بعمر الطفولة والبراءة من شخص لا تهمه الإنسانية وانما همه الوحيد هو اللذة الجسدية وشهوته أينما كانت ،وقد تفاجئنا القاصة باستبدال هذه المرأة بأخرى ،وقد تركت ورائها طفلين هما شاهر وعيشه ،ليكون الجدار الزجاجي فاصلا بينها وبين طفليها ( كان زجاج نافذة السيارة هو الجدار الزجاجي الذي فصلها عن دنياه ،وعزل صوتها عن مسمعها قالت كلمات لم يسمعها بسبب الجدار الزجاجي الذي لا يقل قسوة عن قسوة أبيه ،وخاله وقال كلمات كثيرة سمعها كل الجيران إلا هي وغادرت ولم تعد ولم يسمع منها أو عنها أبدا ،فقد ابتلعها الجدار الزجاجي ) ،ثم ان بطل القصة ابنها شاهر قد وضع في جدار زجاجي واخذ نصيبه من هذه الحياة وعزل عن أخته ( وبقي الجدار الزجاجي فاصلا بينه وبين عيشة كما كان فاصلا بينه وبين أمه.) ، فالجدار الزجاجي هي الزنزانة الزجاجية التي حبس بها وقتلت أحلامه و هي بعمر الورود كطفل ( كم كره الجدار الزجاجي !! وكم كره الزجاج كان يراقب أخوته من أبيه يشربون في كؤوس زجاجية شفافة كما طل الصباح ... لكنه لم يجد أبدا أجوبة لأسئلته كما لم يجد طريقة يخترق فيها الجدار الزجاجي ليوصل شكواه لأبيه الذي ما شكى يوما بإهماله له ولأخته ولا في لا مبالاته بمصيرهما ما دام يستمرئ دفء جسد أمه عايشه.) ، فالجدار أصبح حجرا ذا أطراف مدببة وقفت بوجه حاجزا ،كما وقفت بوجه أمه ،وأخيرا تقف بوجه أخته ليكون وحيدا فريدا ( من جديد فصله عنها جدار زجاجي آخر، قال الأطباء ان حالتها خطيرة ،وان عظامها المعراة دون جلد إلا من مزق معترقة عرضة للجراثيم والبكتيريا ،فوضعوها عارية في صندوق زجاجي معقم... ) وتنتهي حياته على يدّ الجدار الزجاجي كما هي حياة أمه وأخته ليكون آخر ضحايا هذا الجدار وذلك في عمله الذي جعله متسولا بين الشوارع والأزقة  ( حاول أن يطرق الجدار الزجاجي الذي يفصله عن الدفء ،ولكن قوة ما أذابت عزمه ،وأبرزت خجله تكوّم بالقرب من الجدار الزجاجي ... رأى في حلمه كل جدران الدنيا وقد دكت شظايا وحطاما ... في الصباح كان المكان يزهو بثوب ابيض من الثلج الجميل ،والى جانب الشرفة الزجاجية كتلة متجمدة اسمها شاهر ،الذي كسي وجهه بالثلج ،وبابتسامة عميقة غريبة ... تدلّ على راحة أبدية ).

فعنوان القصة نصّ مصغّر ،له امتدادات في منظومة ثقافية موسعة تقابله بأي شكل من أشكال التقابل ،ومن ثم فان فهمه وتأويله يتمان من هذه المنطلقات ،عبر مقابلة مقوماته ( الاختزال ،التكثيف ،الإيحاء ،الترميز ... )20 ، لكشف طاقته الدلالية ورمزيته بوصفه عنوان يحمل مقصدية القاصة في إظهار الزيف الذي يعاني منه مجتمعنا العربي، وقد تركت القاصة ذلك إلى المتلقي ليكمل المعنى ويتوسع في الدلالات ،فـ(فالجدار الزجاجي) لم يكن تحديد لفضاء النص بمقدار ما هو عنوان يحمل من القدرة التأويلية والسيميائية في بيان رسالة القاصة ،تلك الرسالة التي لا يمكن معرفتها إلا بعد قراءة واعية تعطي الألفاظ حقها التأويلي ،فالقاصة بمنظومتها الثقافية والأدبية ليس بمعزل عن المجتمع ومشاكله فهي قد رسمت الخطوط وأشارت إلى العلامات وتركت الأمر للمتلقي ،فالجدار الذي يعرفه القارئ هو الحاجز او السد المنيع الذي يعجب رؤيتك البصرية والذاتية الشخصية (الحرية) ،ولكن المسافة الجمالية التي خلقها العنوان بلعبة بلاغية جمالية هو الجمع بين الجدار وبين الزجاجي الذي لا يحجب الرؤية ،ومع كونه لا يعجب الرؤية إلا ان الذات الإنسانية لا تستطيع ممارسة حريتها في ظل هذا الجدار الزجاجي ،بعبارة أخرى ان الذات الإنسانية عندما تكون في ظل الجدار الزجاجي فهي تعيش أسوء حالاتها وحالات الحرمان فهي ترى ولا ترى في الوقت نفسه، بل كما يقال : ان أقسى أنواع السجون هي التي لا جدران لها  ،بهذه القراءة للعنوان نستطيع أن نختزل كل المتن الحكائي لهذه القصة ،فهي منذ اللحظة الأولى تتحدث عن مجتمع يجد في ممارسة القسوة والحرمان ضد الآخرين لذة ونشوة ،فالجدار الزجاجي يبدأ من أمّه التي كسر جدارها الزجاجي زواج السلطة للرجل والقوة ،ومصادرة الإرادة والاختيار،ثم غيبت تحت ضربات أبيه ( بربيش) الذي اعتاد ان يعريها من ملابسها ،وان يغلق باب البيت ويضربها حتى يدميها ... ،ليس (هي) فقط بل أعداد لا تحصى من النساء في ظل مجتمع ذكوري لا يؤمن بحرية المرأة.

أما مركزية العنوان يجد القارئ ان العنوان ارتدادي فهو قد ولد من صلب القصة ليكون سفيرها الوحيد لدى المتلقي ليختصر كل هذه المسافات الطويلة بين السطور ويمارس فعله الدلالي والجمالي والتأثيري من خلال المفارقة بين الجدار كحاجز يمنع الرؤية، والزجاجي كحاجز لا يمنع الرؤية، وأخيرا فعله النقدي – وهو الأهم – من خلال كشف مخبوءات الألفاظ وإبعادها التأويلية.

فضلا عن ذلك أن هناك قصدية وتعمّد من القاصة في الجمع بين (الجدار، والزجاجي)،ذلك ان الجدار ينماز بالقوة والقسوة والشدة، وهذه قد ناسبت بعض الرجال في معاملتهم للمرأة التي غالبا ما تنماز بالرقة والصفاء والشفافية التي ينماز بها الزجاج.

ويبقى عنوان الجدار الزجاجي إحالة على الواقع الأليم الذي تعانيه الذات الإنسانية بما يجمعه من امتدادات سواء كان على مستوى الدلالة او الرمزية،فجاء لصيقا بواقعه الاجتماعي وناقدا له كاشفا عن مضمرات هذا المجتمع(21)

 

 4- صديقي العزيز:

وتخلق القاصة مفارقة عنوانيه من خلال كسر التوافق بين عنوان القصة (صديقي العزيز) ومضمون القصة عن طريق التلاعب بتقنيات الكتابة النصية وتوجيهها الوجهة التي رسمتاها لها قبل الشروع في كتابة هذه القصة ،وقد اعتمدت القصة في ذلك على فراغات النص التي تركتها للمتلقي ليتخذ دوره في استخراج المعنى وباطن النص من خلال ذوبانه مع النص ليساهم في إيضاح الغامض والكشف عن مخبوءات النص في عملية القراءة والتأويل ،ومن هنا تنبع الأهمية القصوى للمفارقة والتأويل لكثير من العنوانات بعدّها مرايا معلقة في واجهة النصوص ،تتوجه إليها عيون القرّاء ؛لكن هذه المرايا قد تكون مرايا خادعة لا تكتفي بالصورة الظاهرية لها بل تتطلب الغوص في باطن النصّ ،أي أنها توحي بغير ما هو موجود ،فهي مجرد إشارات ضوئية (22)توكل للمتلقي دوره في فتح رموز النصّ وشفراته،وفي ضوء ما تقدم يمكن أن نعطي قراءة لا تقف عند سطح النص بل تمتد إلى ما وراء النص لتسهل علينا الكشف عن بنية العنوان ومقصديته بوضوح.

تبدأ القصة بفراغ –(( ... )) وهذه الفراغات والحركات في النصّ هي التي تنشط عمل التلقي اذن هذا الفراغ هو نائب عن اسم صديقها العزيز التي لم ترغب أن تذكره للقارئ ،ثم تبنى القصة بعد ذلك عن طريق الفراغات والأسئلة الاستفهامية .

-         ولكنك صديقي العزيز... ))

-         وسأبقى دائما كذلك ،هاك مفتاح بيتي ثقي دائما أن المكان سيكون بيتك أكنت فيه أم لم أكن ))

-         أنا آسفة لاني لست بمثل روعتك ،أنت تستحق قلبي ليبذل تحت قدميك،ولكن... ))

-         أنت لا تحبني أليس كذلك؟ ))

-         نعم ... أقصد لا ...))

هو قد اتخذها حبيبة وهي قد اتخذته صديقا وكانت متعلقة به بشدة لا تفارقه تحتاج إليه في كلّ يوم ،غاب عنها ذات مرة واتصلت به ليساعدها ؛لأنها لاتملك النقود، لكن المفاجئة التي تنتهي فيها القصة هي اأها أحبته وعشقته ليس صديقا وانما حبيبا او زوجا من دون ان تشعر ومن دون ان تعلم بقوة عواطفها وأحاسيسها التي جعلتها تعشقه كما أراد هو في بداية الأمر أن تكون له حبيبة فرفضت ذلك وفضلت الصداقة على الحبّ.

يكشف لنا المتن الحكائي للقصة عن القيم الاجتماعية والثقافية التي يعيشها الإنسان العربي وهي عبارة عن انساق ثقافية مسكوت عنها جعلت من المجتمع العربي مجتمعا ذكوريا ،بل ابعد من ذلك حتى علاقات ذلك المجتمع مع الأنثى محاطة بالحذر الشديد وعدم حسن النية نتيجة لما تلقنه من العادات والتقاليد ، ذلك الأمر أدى إلى فقدان الثقة بالآخر ،فالقاصة تكشف لنا  تلك الصداقة التي بدأت بعيدا عن كل ما يلوثها ،فهي علاقة (صديقي العزيز) ،وليس – مثلا – ( زميلي العزيز ،او رفيقي العزيز ... ) ؛ذلك ان هذه الأسماء الأخيرة قد لا تكون اقرب والصق من لفظة ( صديقي ) ، إلا ان مثل هذه العلاقة فقدت وجودها في المجتمع ،لذلك عمدت القاصة إلى نقل رسالة إلى القارئ من شأنها أن تسهم في عملية بناء الذات الإنسانية وأن تعيد هذه الثقة بالصداقة ،ثم كيف أن هذه الصداقة تحولت نتيجة لصفائها وصدقها إلى علاقة حبّ من دون أن تشعر ( هي).

فقد سألها رجل الشرطي (( أهو زوجك )) : قالت وهي تنزلق في الكرسي المجاور متعبة جائعة ،ولكن تملك يقينا يقول ان الحبيب المنتظر هو صديقها : (( لا ... هو حبيبي ... اقصد ... هو حبيبي العزيز ... )) هكذا أصبحت لم تملك عقلا  تملك فقط عواطف تتلاعب بها  من دون ان تشعر بذلك أو تنتبه لنفسها ،فهي مصرة إلى آخر لحظة ان يكون صديقها ولكن لم ينجح إصرارها فقد أصبح عشيقها وحبيبها.

     من هنا يكتسب العنوان أهميته في عملية تشفير النص حيث تصبح عملية فهم العنوان واستيعابه عملية أولية للتسلح في عملية فهم النص اذ لا يمكن فهم العنوان بمعزل عن النص فـ (العلاقة بينهما جدلية، فنحن نحتاج حتى نفهم العنوان أن نفهم النص، والعكس صحيح أحيانا. يشكل العنوان نقطة انطلاق إلى النص وفهمه، فمن خلال العنوان نجس نبض النص وكأننا لا ندخل النص من نقطة الصفر، وفي الوقت نفسه فان العنوان يفتقر إلى مرجعية يتسلح بها غالبا ما تكون النص نفسه( (23).

وهذا ما دفع دريدا إلى تسميته ب (الثريا) التي تضيء الطريق الذي ستسلكه القراءة وإزاحة الغموض وإظهار النصّ إلى النور (24)، فالعنوان هنا (صديقي العزيز)قد يكون كافيا بمفرده ان يعكس لنا هذه العلاقة وإيصال رسالة القاصة، ففضلا عن الوظائف الاخرى التي حققها العنوان هنا، فانه قد أسهم بدور كبير في حصر النصّ في دائرة قريبة من ذهن المتلقي وعدم ضياعه بين أسطر النّص وألفاظه.

 

 

5-اللوحة اليتيمة:

ان عنوان اللوحة اليتيمة فضلا عن طاقته الدلالية وقدرته على اختزال النّص الذي تقدمه  جاء كأنه مرآة مصغرة رسمت فيه معالم ذلك النصّ وزواياه نقول فضلا عن كلّ ذلك، فهو عنوان يحمل طاقة جمالية بلاغية كان لها تأثير مباشر على القارئ في متابعة هذه القصة وقراءتها وذلك من خلال الاستعارة التي يحملها هذا العنوان وهي ان اللوحة لا تكون يتيمة وانما الإنسان هو الذي يكون يتيما إلا ان القاصة قد ضمنت عنوانها هذه الجمالية، نسبة إلى من أنشأ هذه اللوحة وجعلها ترى الوجود.

كان الراسام الذي رسم هذه اللوحة فقيرا حتى انه لا يملك الإصباغ والألوان التي يرسم بها اقرانه وزملاؤه، وقد رسم هذه اللوحة ليشارك فيها بمسابقة على مستوى الدولة وبالفعل فاز بالمرتبة الأولى على الرغم من تواضع لوحته التي كانت لا تملك حتى إطارا يحتويها ،إلا ان القدر قد سبق الجائزة التي تقدم لراسمها ،فقد غرق طارق ولم يستطع الحضور الى حفل تسليم الجوائز(( كل الوجوه حظرت إلا وجه راسم لوحة غوار ،فقد غاب للأبد دون أن تعلم اللوحة المنتظرة أنها قد تيتمت منذ أيام ... لم يطل انتظار اللوحة لطارق ،بل انتهى للأبد عندما أعلن بحضور وزير الثقافة عن موت طارق غرقا ... الشباب الموجودون في الحفل شعروا بخجل خاص من أجسادهم الغضة التي تتمايل تيها بالبذلات الأنيقة أمام نظري أم طارق الموتورة بابنها )) ، يمثل لنا عنوان القصة علاقة رمزية قائمة على المفارقة أو الضدية بين مفردة اللوحة التي هي رمز للجمال والبقاء وبين اليتم الذي هو رمز للموت والحزن الشديد،ليكتسب بهذه المفارقة صفة الشعرية التي هي (انزياح وخرق وانتهاك لمبدأ العنونة في النثر وآية ذلك ان العنونة على وفق جون كاهين من سمات النصّ النثري لانّ النثر قائم على الوصل والقواعد المنطقية)(25) ،ولاسيّما (أن العنوان أضحى لعبة مثيرة في الكتابة الأدبية فالناص لم يعد في عنونته للنص مقتنعا بوفاء العنوان للنصّ والالتزام به فحسب ،وانما عليه أن يقلق القارئ... وهذا لا يحدث إلا بتفخيخ خطاب العنوان بالإثارة تركيبيا ودلاليا ومجازا )(26)،ويحدث انزياح في بنية العنوان من خلال الجمع بين المتناقضات.

من هنا يأتي دور العنوان ليختصر لنا كل هذه المسافة والفقرات فيكون بمثابة صورة فوتوغرافية تجسد للقارئ كل ذلك الكلام.

وهذا العنوان هو عنوان ارتدادي أي انه خرج من صلب النص ومكوناته الأساسية، فالقارئ يجد فيه تلخيصا عجيبا فهو أكثر عنوانات المجموعة قدرة في الاقتصاد اللغوي فقد اختصر النصّ بكلمتين فقط هو (اللوحة اليتيمة).

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

الهوامش :

   العنوان في الشعر العراقي المعاصر، (بحث)، ضياء راضي الثامري ،13.

2ـ ينظر: السيموطيقيا والعنونة، (بحث)، د-جميل حمداوي، ص96.

3ـ ينظر: العنوان في الشعر العراقي الحديث، حسب الشيخ جعفر، ص 16.

4ـ عتبات جيرار جينت، عبد الحق بلعابد، ص67.

5ـ  السيميوطيقيا والعنوان، ص 99.

6ـ نفس المصدر، ص97.

7ـ عتبات جيرار جينت، ص44.

8 ـ معجم نقد الرواية، لطيف زيتوني، ص126.

9ـ العنوان في الثقافة العربية، محمد بازي، ص16.

10ـ فاعلية العنوان في النص القصصي، (بحث)، د-سعيد احمد يونس، ص5.

11ـ ينظر: في نظرية العنوان، د-خالد حسين حسين ،359.

12ـ  ثقافة الاسئلة، عبد الله الغذامي،48.

13ـ ينظر:اشتغال العتبات في رواية (من انت ايها الملك)،د-هشام محمدعبد الله ، ،ص 667 .

14ـ العنوان في الثقافة العربية، ص 18.

15ـ ينظر: دلالة اللون، ظاري مظهر صالح، ص379 – 80.

16ـ العنوان في الشعر العراقي الحديث، حميد الشيخ فرج، ص 101.

17ـ ينظر: نظرية التأويل التقابلي، محمد بازي،335.

18ـ شؤون العلامات من التشفير الى التأويل، د-خالد حسين حسين، ص112.

19ـ عتبات جيرار جينت، ص80.

20ـ ينظر: العنوان في الثقافة العربية، ص25.

21ـ ينظر: عتبات النص الروائي، (بحث)، د-نجود عطا الله، ص342.

22ـ ينظر: العنوان في الثقافة العربية، ص 21.

23ـ سيمياء العنوان في شعر يحيى السماوي(مقال)، د-جاسم خلف الياس.

24ـ ينظر:ثريا النص ،محمد عبد الوهاب،ص 10 .

25ـ سيمياء العنوان، بسام قطوس،ص 58 .

26ـ في نظرية العنوان309.

المصادر:

 

دلالة اللون في القران والفكر الصوفي ،ظاهر مظهر صالح،دار الزمان للطباعة والنشر ،د.ت.

سيمياء العنوان في روايات محمد جبريل،رحماني علي،كليةالآداب والعلوم الانسانية،جامعةبسكرة الملتقى الدولي الخامس السيمياء والنص الادبي.

سيميوطيقيا والعنونة، د-جميل حمداوي،مجلة عالم الفكر،م(25 )،ع(3 )،يناير مارس 1997 .

شؤون العلامات من التشفير إلى التأويل-خالد حسين حسين، دار التكوين، دمشق.

عتبات جيرار جينت، من النص الى المناص، عبد الحق بلعابد، منشورات الاختلاف، ط1 ،2008.

عتبات النص الروائي،عنوان رواية خلاصة النزف،لأحمد العرود (أنموذجا)، د-نجود عطا الله،مجلة التربية والعلم،م(19 ) ،ع (1 )،2012 .

العنوان في الشعر العراقي الحديث، الشيخ فرج،دار ومكتبة البصائر، ط1 ،2013.

العنوان في الشعر العراقي المعاصر، ضياء الثامري، انماطه ووظائفه، مجلة جامعة القادسية في الآداب والعلوم التربوية،م (9)،ع (2)،2010.

العنوان فيا لثقافة العربية،محمد بازي،منشورات الاختلاف، ط1 ،2012.

فاعلية العنوان في النص القصصي،دراسة في قصص جمال نوري،د-سعيد احمد يونس،مجلة جامعة القادسية،م (21)، (1) ،2014.

في نظرية العنوان،د-خالد حسين حسين، دارالتكوين، ط1،2012.

لسان العرب،دار صادر،ط3 .

معجم مصطلحات نقد الرواية،لطيف زيتوني،ط1، لبنان.

مشاكلة بين عتبة العنوان ولوحة الغلاف، د-عشتار داود، مجلة جامعة تكريت للعلوم الانسانية، م (17)، ع(4)، نيسان2010.

نظرية التأويل التقابلي،محمد بازي،منشورات الاختلاف ،ط1 ،2013 .

 

 


 
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق