الجمعة، 16 سبتمبر 2016

الطاقات المتحررة من الصدام بين الوطن والاغتراب بقلم : البروفيسور محمد الدعمي

 

 

 

أ.د. محمد الدعمي

طلبت إحدى تلميذاتي السابقات في الماجستير (2005)، مشورتي لمشروع أطروحتها للدكتوراه حول موضوع (الوطن والاغتراب في مؤلفات ثلاثة روائيين معاصرين). ونظرًا لغنى هذا الموضوع وآفاقه المتنوعة، كأطروحة دكتوراة، خطرت في بالي بعض الأفكار المفيدة التي قدمتها لها فوافقت عليها واعتمدتها، مشكورة.
وقد تبلورت أهم هذه الأفكار في التنافر غير القابل للتجاوز من قبل النقاد بين الوطن، من ناحية، وبلاد الغربة، من الناحية الثانية، بمعنى أن هذا التنافر لا يمكن التغاضي عنه في أية دراسة جادة حول الفكرتين، الوطن معاكسًا للاغتراب.
ومرد أهمية هذا التنافر بين الفكرتين، أو الموضعين إنما يكمن في انعكاساتهما على ذهنية وعواطف الروائي العربي عامة، بمعنى أن الاغتراب دائما ما كان منتجًا للإبداع وللخلق، على عكس ما نلاحظه اليوم في أدبيات «المهجر».
لذا اقترحت على الباحثة الفاضلة أن تضمِّن أطروحتها شذرات مضيئة من الكيفية التي قاد الاغتراب من خلالها إلى الإبداع ثم إلى التفوق، بل وإلى إطلاق الومضة الأولى لحركة النهضة العربية: إذاك تجلى أمامي رفاعة رافع الطهطاوي، الذي يعد من أساطين النهضة العربية بسبب مكوثه في باريس لمدة معينة، فتلقى الصدمة الثقافية والحضارية التي تعرض لها في فرنسا على نحو بنّاء، الأمر الذي جعلها من أهم مسببات إطلاقه فكرة النهضة، تأسيسًا على المقارنات والمقاربات التي تبلورت كأسئلة مضنية من نوع: لماذا هم متقدمون ونحن متخلفون؟ وهي أسئلة قاد إلى البحث عن إجابة حقيقية، لا دعائية ولا تحريضية.
أما النموذج الثاني لأساطين النهضة الثقافية العربية الحديثة، فيتمثل بـ»السيد جمال الدين الأفغاني» تلك العبقرية الفذة التي لم تستقر في «وطن ما»، فبقيت مرتحلة عبر حياته الحافلة بالفكر والجدل الذكي بين مسقط رأسه في إيران، وبين الهند والعراق، تركيا وروسيا ومصر، فلندن وباريس، ثم اسطنبول ثانية حيث دفن!
لذا لا يمكن قط الفصل بين هذه التنقلية المتواصلة وبين ما أنتجه الأفغاني وتوخاه من أفكار إبداعية كانت من بين الأهم في تاريخ النهضة العربية/الإسلامية الحديثة (القرن التاسع عشر).
والحق، فقد كانت مناضرات الأفغاني مع الفيلسوف الفرنسي (رينان) Renan واستقراره في بيت الكاتب الإنجليزي (وليم بلنت) Blunt وراء عدد من أهم جدلياته في البحث عن كنه النهضة والتقدم، تلك العناصر التي كان يفتقر العرب والمسلمون إليها حقبة ذاك.
لست أشك، ولا للحظة واحدة، بأن التنافر بين الاغتراب والوطن قد خدم دائمًا كمنتج للومضات العبقرية، ومن المسببات الأساس للنقد الاجتماعي، بل ومن أهم حوافز إطلاق حركة النهضة العربية والإسلامية التي نرتد إليها بين الفينة والفينة. لقد كانت حوافز المقارنة من أهم مسببات خلق وتكريس فكرة النهضة، على عكس ما يقدمه لنا اليوم العديد من الكتاب المغتربين من أفكار محبطة لا صلة لها بالنهضة، بقدر ما لها صلة بالنكوص والسوداوية والتقهقر، موهومين بأن هذا النوع من العواطف والمواقف المثبطة إنما يعكس «حساسية الكاتب» الذي لم يقدم شيئًا لخدمة وطنه أو رسالته الاجتماعية. ■


 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق