قصة قصيرة
كنت ارقبه عن بعد، كنت أرقب الحياة المتدفقة في ثناياه تعطي جمالا وروعة
للطبيعة من حوله، شاب في مقتبل العمر، يرى جمال الطبيعة من خلال جمال روحه، كان
يأتي كل صباح ليرى الشروق من خلف الجبل، ليرى قرص الشمس الساطع يرسل خيوط الامل
الى قريته فيحيل نومها الى ضجيج الحياة، جاء ليطل على قريته الجميلة الوادعة، دون
كلل او ملل وفي قلبه امل، فيستقبلني بتحية الصباح المليئة بالخير.
كان يأتي في المساء لينظر الى الكرة الأرضية من حوله فيشعر انه مركز
العالم، فيمتلئ صدره املا وفخرا واعتزازا بنفسه، يضم قريته الى صدره بلطف، قبل ان
تضم الشمس كليهما بأشعتها الصفراء التي تداعب موجات البحر امامه فتحيلها الى حبات
من اللؤلؤ والمرجان، فينتصب الكرمل امامه كالمارد الذي يتحدى العالم، فيودعني
بتحية المساء المليئة بالأحلام.
وقف عشرات المرات، على تلك التلة في وسط حديقة التماثيل التي ترمز لبيئة
نظيفة وصحية، وقف على قمة هذه التلة المرتفعة الجميلة المقابلة لقريته وكأنه يقف على
قمة العالم يتأمل ويتألم حيث تتراءى قريته من الخلف على قمة أخرى من قمم العالم
أجمل وأرتب، من كل العالم ببيوتها المتراصة المتناسقة، بجمال موقعها على تلة بين
الجبال، كاللؤلؤة في واسطة العقد، بأشجارها الباسقة ونظافة شوارعها واخلاق اهاليها،
يضمها من هناك ضمة عاشق ويقول: ما اروعك يا جميلتي، فتهب عليه نسمات غربية تحتضنه
برفق فيشعر بالراحة والانتعاش. قرية صغيرة جميلة خضراء وادعة تفتح صدرها لنسيم
البحر، قرية تعشق الحياة وتتمسك بأهدابها، قرية تعيش يومها وتحلم بغدها المشرق
الجميل.
قال لي اخر مرة عندما التقيته جالسا على طاولة العشاء الأخير للمسيح، ينظر
الى البحر البعيد الممتد عبر الأفق، يحدق في اللا شيء، سارحا في ملكوت السماء،
يداعب خياله سحر المكان:
-
اترى ما اراه، اترى هذا الجمال وهذا السحر
الممتد امامنا؟
-
طبعا اراه كما تراه انت.
-
ليس بالضرورة يا صديقي، ليس بالضرورة.
-
لا افهم ما ترمي اليه؟
-
اترى أعمدة الدخان تلك المنبعثة من مصانع
الكيماويات في خليج حيفا، اترى الى اين تسير هذه الملوثات؟ انها تسير باتجاهنا يا صديقي،
اننا نستنشق الملوثات على انها نسيم البحر العليل فنفرح بها، اترى تلك الحاويات
الكيماوية التي تتحدى الطبيعة وجمالها فتلوثها؟ انها من صنع يد الانسان، انها تؤذينا
جميعا لكننا نعرف ونصمت، فهي ثمن الحضارة. انظر الى أعمدة الكهرباء التي تعطينا
النور وبالمقابل تلوث حياتنا، انظر حولنا الى هذه الاعمدة الحديدية التي تنتصب
كالشيطان ترسل اشعاعاتها فتخترق اجسادنا، ترسل اشعاعاتها دون ان نشعر، تستقر في
داخلنا ونحن لا نعلم، اترى هذا الصديق "وهو يشير الى نقاله" الذي أصبح
ملازما لنا، هذا النقال اللعين كم من الاشعاعات يرسل، انه شريك لهذه الاعمدة
المنتصبة من حولنا التي تفتك بنا بهدوء، اننا ندفع الثمن الباهظ من مالنا وصحتنا
ثمن راحتنا المزيفة, أتدري كم شخصا يرزح الان تحت وطأة هذا المرض اللعين، الذي يتآمر
مع الملوثات ليقضي على اجسادنا التي صنعته بأيدينا؟ الملوثات التي دافع عنها
بشراسة كل طماع فجعل من المال دينا له، اتعرف عمر، وخالد، وسعيد، عبد الجبار، وفاطمة،
ورقية، وعبد الحكيم، وعبد العليم وعشرات غيرهم الذين لا يبرحون الفراش في انتظار
زيارة الملاك في رحلتهم الأخيرة. هل تعرف يا صديقي كم شخصا قتلت هذه الملوثات من
أهالي قريتنا؟ الم تقتل، سعيد، وعلي، واحمد، ومحمد، وقاسم، والعشرات غيرهم الذين
غاب عني ذكرهم. هل رأيت يا صديقي سلطة محلية او إقليمية تهتم لحالنا لبيئتنا لصحتنا،
تقوم ببحث وتمحيص واكتشاف المسبب قبل وقوع الكارثة، الم يقل اجدادنا ان "درهم
وقاية خير من قنطار علاج"؟ ما قيمة كل هذا الجمال والخضرة في حين ان الملوثات
البيئية هي الطاغية وهي المسيطر؟ . ارايت العلماء والمثقفين وحملة الأقلام يهتمون
بما نحن فيه، فيثور الجميع ويقلب الطاولة امام المسؤول الذي دفع له كي لا يرى،
والمسؤول الذي يرى ولا يريد ان يرى، ارايت عامة الشعب تثور لصحتها وتقاتل من اجل
درء الخطر عنها؟ كلنا متهمون كلنا مقصرون، لا أحد يحرك ساكنا الا إذا وقع بالشرك
اللعين. أنتم الكتاب والشعراء تتغنون بالطبيعة والحب والجمال، ولا تفطنون لتحريك
ساكن من اجل الحفاظ عليهم، أنتم تخاطبون العواطف والاحاسيس عند الناس وتتركون
العقل والمنطق وكأنه ليس من اختصاصكم، اين أنتم من حب البشرية؟ اين أنتم من صحة
الناس؟، اين أنتم من جمال الطبيعة بدون ملوثات؟ بل اين ضمائركم التي تدعون انها
ضمير امة؟ قال جابر كلمته الأخيرة ودمعة كانت تترقرق في مقلتيه، مخرجة خيوط نور
خافتة حزينة، بدا هائجا مضطربا خائفا تعتمل في نفسه ثورة على شفا الانفجار.
دون سابق انذار لم يعد جابر الى ذلك المكان، مر أسبوع مر اسبوعان منذ ذلك
الحديث الطويل، وانا ارقب المكان لعلي أرى صديقي يأتي لزيارة المكان دون جدوى،
اختفى جابر، وقفت وحدي انتظره، أحاول ان اتمتع بجمال المكان، أحاول ان اعيد للشمس
بريقها وللطبيعة مجدها، ولكن صورة جابر كانت اقوى، دمعة جابر هيمنت على تفكيري
واحتل الوسواس تجاويف عقلي، فاستعاد كل كلمة قالها لي ، فعكفت عن رؤية جمال المنظر
بانتظار عودة جابر.
في يوم حزين جاء جابر، تمنيت فيه لو لم يأت، لم اصدق ما تراه عيني، لم اقل
كلمة، وقفت مصعوقا امام شبح انسان، هذا الجسم الهزيل الضعيف بحركته الضعيفة، هذا
اللون الأصفر الباهت الذي يشي بحجم المعاناة، النظرة اليائسة الحزينة، الشعر الذي
تساقط كليا من الراس، ترك خلفه بقايا انسان محطم حزين بائس.
كان صديقي جابر، مريضا جدا، كان يصارع الموت في كل يوم، رغم هذا جاء، جاء
الى نفس المكان الذي اعتاد ان يأتي اليه، جاء ليرى الطبيعة كما اعتاد ان يراها،
جاء ليتمتع بجمال الحياة حتى لو كانت اخر مرة، جاء ليتحدى ويقاوم، جاء ليقول للمرض
انا اقوى منك، باستطاعتي ان اغلبك. وربما جاء ليقول لي هل فعلت شيئا قبل فوات
الاوان، هل رفعت صوتك عاليا يا صديقي؟، هل سمعت ما قلته لك يوم التقينا قبل
أسبوعين؟ لم يدعني جابر أكمل حبل افكاري واسترسل في أعماق احزاني، عندما عرَّا
جابر حقيقة الطبيعة ومأساتها فقال:
-
كنت اعلم يا صديقي، عندما حدثتك اخر مرة كنت
اعلم أنني مريض بمرض خبيث، كنت اعلم أني مريض رغم انفي، مريض بسبب التلوث الذي انا
نفسي بصمتي أسهمت في صنعه، عندما كنت سليما صمت عليه رغم علمي بوجوده، وهو في
طريقه الي او الى غيري. في البداية كنت أرى الطبيعة وجمالها كما تراها انت الان بعينيك،
فانت أجمل من وصفها، كنت استمتع بها كما تستمتع بها انت اليوم، وعندما أعلمني
الطبيب بالحقيقة صدمت حزنت بكيت، ولكني رأيت الطبيعة على حقيقتها المزيفة، رأيت
التلوث والامراض في كل بقعة يقع عليها نظري، فحاولت ان اعمل شيئا من اجل مستقبلنا
جميعا رغم تأخري. بالنسبة لي فقد حسم الامر، وقد قبلت قضاء القدر، ولكني أخاف اليوم
على غيري، على اهلي وناسي، إذا سكتنا فسيصل الوباء الى الجميع عندها سنقول: اكلت
يوم اكل الثور الأبيض.
نظرت اليه من خلا الدموع التي حاولت ان امنعها بكل قوة فغلبتني، لأرى
تقاسيم وجهه، كان هادئا بحزنه، كان صابرا، كان جميلا جدا بوعيه وحكمته، كان يحمل
رسالة، يحملها الينا جميعا، كانت رسالته الوحيدة لا تدعوه يقتلنا جميعا.
مصطفى عبد الفتاح
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق