الأربعاء، 1 يونيو 2016

علم اللهجات أو جفرافيا اللغة

 
 

علم اللهجات أو جغرافيا اللغة

أ.د. محمد الدعمي
للمرء أن يستنبط عنوان المقالة مما لاحظه فقهاء علم اللغة الإنكليزية منذ عقود حول تنوع أشكال اللغة الواحدة من موضع جغرافي معين لآخر، مستدلين على ذلك تنوع اللهجات المحسوس. وقد خص جهابذة الألسنيات هذا التنوع الذي يطرأ على لغة واحدة من موقع جغرافي ومن جماعة لأخرى بفرع خاص من علم اللغة، أطلقوا عليه عنوان «علم اللهجات» أو الــ”Dialectology”.
ونظراً لأن اللغات، عامة، تستجيب للتبدلات البيئوية وللتنوعات البشرية كأي كائن حيوي، فإن ما لاحظه فقهاء اللغة في الإنكليزية إنما ينطبق كذلك على سواها من اللغات الحية، ومنها لغتنا العربية، بطبيعة الحال. وللمرء أن يلاحظ ذلك وهو يتفحص التنوعات في التعبير, وفي سك المفردات واستخدامها، خصوصا عندما ينتقل من مسقط أو من دمشق الى مراكش أو الى قسنطينة، إذ أنه لابد أن يصطدم بطرائق مختلفة تماماً في التعبير عن الأشياء حتى في استعمالات الفصحى، الأمر الذي يتمخض عن التنوع المقصود في أعلاه. ودلائل ذلك واضحة للعيان حتى على شاشات التلفاز، فلا تحتاج سوى لمتابعة قناة مغربية أو جزائرية أو تونسية لتكتشف التنوع على مستوى التعبير وتوظيف المفردات ومتغيرات معانيها. هذا ماحدث لي سنة 2010 عندما زرت الجامعة الصيفية في مراكش (14-24 يوليو) لإلقاء ثلاث محاضرات عن الشبيبة العربية ومعاناتها، برعاية من مؤسسة «أطلس» الأميركية. هناك، لاحظت كيف تتحول لغتنا العتيدة من شكل لآخر، درجة تحول ما نطلق عليه، هنا في المشرق العربي، عنوان «اجتماع تشاوري»، الى عنوان «اجتماع تفاكري» ناهيك باستحالات قد تكون مربكة بالمفردات، من نوع «رئيس الوزراء» الذي يستحيل الى «وزير أول». في دول المغرب العربي التي وقعت لغتنا العربية فيها ضحية «للفرنسة» من ناحية، ولضغوط الأمازيغية، من ناحية ثانية. لقد تجلت التحولات على نحو واضح للغاية حتى صارت «الزراعة» «فلاحة»، وتحول «العمل» الى «شغل»، والعمال الى «شغيلة» و«مشتغلين»، وهكذا دواليك. أما تعبيرنا المعروف «على نحو خاص» أو «خاصة»، فيميل أشقاؤنا المغاربة الى استبداله بتعبير «بصفة خاصة». وغالباً ما تستحيل تنوعات الألفاظ الى حالات لاتخلو من الإحراج، كما هي عليه حال لفظنا الشائع للإشارة الى الأم أو الجدة باستخدام كلمة «حجية» أو «حاجة»، ذلك أن لفظة «حجية» في الجزائر قد تعني «عذراء» وقد عانيت شخصياً من هذه التنوعات عندما عملت أستاذاً وعميداً بجامعة في الشقيقة الأردن، حيث كان الباعة يستغربون وصفي «اللون البني» باللفظ الشائع له في بعض الدول العربية، وهو «جوزي»، كناية عن تشابهه مع لون الجوز. كان الباعة الأردنيون يضحكون لأن لفظ «جوزي» لا يعني لديهم سوى «زوجي» بصوت امرأة وليس بصوت رجل. أما أكثر ما كان الطلاب الخليجيون يتفاجأون به هناك، فهو لفظ «أكو» السومري، إذ أني قد حظيت بالتسبب بضحك بضع طالبات خليجيات حسان عندما دخلت متجراً وسألت صاحبه: «أكو قهوة»؟ إذ كان علي أن أقول: «في قهوة؟» كي أتلاءم مع لهجة الآخرين. ناهيك باسماء المواد الغذائية من نوع «طماطة» و«بندورة»، و«دجاج» و«دياي»!
وللمرء أن يحمد الله الذي أنزل القرآن الكريم بلغة عربية فصحى، وحفظها بواسطته من الضياع، إذ تمكن هذا الكتاب المبين من ليّ جميع لهجات القبائل، قحطانية وعدنانية، لتقولبها في لهجة قريش، أي لهجة الرسول الكريم (صلىالله عليه وسلم). إلا أن على المرء أن ينبه الى مخاطر استفحال «العاميات» و«الدارجات» على بقاء وشيوع اللغة العربية الفصحى التي تشكل لنا جميعاً جسراً رابطاً بين الأصل والتفرعات الدارجة، خصوصا في عصرنا الراهن، حيث تلعب وسائل الإعلام وقنوات التواصل الاجتماعي، أدواراً خطيرة للغاية في تداعيات الانقضاض على الفصحى ومحوها. وإذا كنا لم نزل نتداول أو «نتفاكر» مع إخواننا في دول المغرب العربي بوضوح، فان الزمن كفيل باحالتنا جميعاً الى الفصحى، قناة 
موحدة للتواصل.
*كاتب ومؤلف وباحث أكاديمي


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق