الأربعاء، 24 ديسمبر 2014

أطباء الحضارة ، بقلم البروفيسور محمد الدعمي


أ.د. محمد الدعمي

”لست أشك بأن العقل العربي والمسلم لا يمكن أن تنضب عبقريته، لولا الكوابح واللواجم التي “تقرم” مدياته وتقزم أذرعه، للأسف. وإذا كانت الحضارة تنمو وتشب ثم تشيب، وتمرض وتختل وظائفها، فإن حضارتنا المعاصرة بحاجة ماسة لطبيب لبيب قادر على معاينة أمراضها لتشخيصها وتعيين ما تحتاج إليه من دواء اليوم.”
ـــــــــــــــــــــ
لم يتجاوز مؤرخو الأفكار الحقيقية عندما عدوا الثقافة البريطانية إبان عصر الثورة الصناعية (العصر الفكتوري) أهم ثقافات ذلك العصر. ومرد ذلك لا يخلو من المنطق بالتأكيد، فقد لعب مهاد الثورة الصناعية، الأول من نوعه في التاريخ الآدمي، دوراً تشكيلياً أساسياً في خلق عدد من القدحات العبقرية التي أغنت الثقافة والحضارة البشرية، ولم تزل.
من هذه الشذرات العبقرية يمثل أمامنا المفكر الإنجليزي “ماثيو آرنولد” Arnold الذي ندرسه وندرسه في أقسام اللغة الإنجليزية والفلسفة في الجامعات حتى اللحظة، نظراً لأنه المسؤول عن قلب دلالات الفلسفة من المفهوم التقليدي، حب الحكمة، إلى مفاهيم جديدة، كان من أهمها دور الفيلسوف الحديث، طبيباً للحضارة. مسح آرنولد ثقافة عصره، فلم يجد سوى “الشعر” (بمعناه الواسع، أي الأدب) أداة للتغير والإصلاح الاجتماعي في عصر مزدحم بالجديد، ينقصه التيقن، إذ أدار المجتمع ظهره للدين بعد أن استحال إلى شكليات لا مجدية، وبعد أن خسر رجال الكنيسة منازلتهم مع العلم بعد “دارون”، من بين سواه من رجال العلم. ثم غادر المجتمع الفلاسفة التقليديين الذين صارت آراؤهم محض آثار طللية من ماضِ جامع لغبار الزمن. في مقالته الفذة “وظيفة النقد اليوم” The Function of Criticisim in the Present Day، أحال آرنولد الأدب إلى فلسفة فاعلة اجتماعياً وإصلاحياً، وذلك باستخدامه “النقد” على نحو مبتكر، لأن النقد في هذا السياق ليس هو “النقد الأدبي” التقليدي المنهمك برصد التزويق اللفظي وبالجناس والطباق وبالتمييز بين الشكل والمضمون، وانما هو منظور أوسع وأعمق للحضارة المعاصرة بمتغيراتها المزدحمة بعد بداية “عصر الماكنة” وتفجر ظاهرة المدينة الصناعية بين مانشستر ولندن وما رافق ذلك من خراب للريف بسبب نهاية الإقطاع الوسيط ومد السكك الحديد، زد على ذلك المتغيرات في البنى الاجتماعية والأخلاقية والثقافية.
هكذا أحال آرنولد نقد الأدب إلى نوع من “الطب الاجتماعي” إن صح التعبير، ليس فقط كي يعوض تراجع دور الكنيسة حقبة ذاك، ولكن كذلك ليستعيض عن مجلدات الفلسفة العملاقة التي توارثتها المكتبات من سقراط وأفلاطون وأرسطو، عبر الحلقة الإسلامية بواسطة ابن سينا وابن رشد والإمام الغزالي حتى عصر الثورة الصناعية، اي عصر الفلاسفة العقليين من أمثال “بنثام” Bentham و”مل” Mill في القرن التاسع عشر.
للمرء أن يغتنم هذه الفرصة وهذا الجدل المزدحم بالأفكار والآراء المتناقضة لعقد المقارنات والمقاربات بين عصر آرنولد، وبين عصرنا الرقمي هذا، بقدر تعلق الأمر بنا في العالم العربي الذي لم يحسن في كليهما لأنه يغرق الآن بمعطيات العصر الرقمي، مستورداً، وليس منتجاً أو مغنياً، على سبيل طرح السؤال المؤرق، وهو: هل أنتجنا فيلسوفاً عربياً أو مسلماً معاصراً يستحق أن يوصف بأنه “طبيب الحضارة” العربية اليوم؟ وهل لدينا من هذه العقول الذكية ما يكفي للادعاء بوراثة عبقريات العصر الوسيط من الفلاسفة المسلمين آنفي الذكر، هؤلاء الذين لم يبقوا مستهلكين سلبيين للفلاسفة الإغريق بل حاولوا، كما فعل المعتزلة مثلاً، من بين سواهم، تشكيل فلسفة عربية إسلامية قادرة على التوفيق بين الفلسفة والماورائيات، بين العقل والدين، أي بين المنطق والوحي.
لست أشك بأن العقل العربي والمسلم لا يمكن أن تنضب عبقريته، لولا الكوابح واللواجم التي “تقرم” مدياته وتقزم أذرعه، للأسف. وإذا كانت الحضارة تنمو وتشب ثم تشيب، وتمرض وتختل وظائفها، فإن حضارتنا المعاصرة بحاجة ماسة لطبيب لبيب قادر على معاينة أمراضها لتشخيصها وتعيين ما تحتاج إليه من دواء اليوم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق