الثلاثاء، 29 مايو 2018

صباحكم أجمل/ بوح ياسمينات نابلس بقلم وعدسة: زياد جيوسي




البوح 4
هي نابلس المدينة الساحرة الغامضة التي لا تبوح بأسراراها إلا لمن تشعر أنه منها وروحه تعلقت بها، نابلس التي حفظت التاريخ والتراث وقاومت الغزاة عبر التاريخ، تتسلق جدرانها الياسمينات الدمشقية وتبوح بعبقها للسكان والزوار، حتى أن أحد الأحياء فيها حمل اسم الياسمينة، وكنا نجول في هذا الحي أنا ومضيفتي د. لينا شخشير من زقاق إلى زقاق ومن محلة إلى محلة، من مبنى تراثي لمبنى آخر ومن سوق إلى سوق فلم أمتلك اإلا أن أهمس بأشعار للشاعر أيمن اللبدي يقول في بعض منها: (والرواية ُ مستمرَّة/ بينَ نابلُسَ الهوية ِ والورودِ ألفُ قصَّة/بينَ حاراتِ الزمان ِ والأغانيَ ألفُ رقصة/ والشبابيكُ التي حفظتْ درسها لم تزل عاشقة/والقصيدةُ بينَ رمشيها مكاحل).
وصلنا الى مركز إحياء التراث "صبانة عرفات"، هذه المصبنة التي اشتهرت من حوالي 400 عام بأنواع فاخرة من الصابون النابلسي، حيث استقبلنا الأخ المهندس نصير عرفات بابتسامته المعهودة بكل ترحاب وحدثنا عن فكرة إحياء صبانة عرفات ، هذا الحلم الذي كان يحلم به، حين قامت كل من سبأ عرفات عضو مجلس أمناء جامعة بير زيت وشقيقتها عفاف عرفات الفنانة التشكيلية والتي عملت خبيرة للفنون التشكيلية والتطبيقية في اليونسكو، بإنشاء مؤسسة الشيخ عمرو عرفات الخيرية تخليدا لذكرى والدهما بعد وفاة شقيقهما الذي كان يشرف على الصبانة فتوقفت بوفاته رحمه الله عن الإنتاج، والمؤسسة تهدف إلى تنفيذ مشاريع لإحياء البلد القديمة في نابلس ثقافية وعمرانية واجتماعية، ومنها إعادة إعمار صبانة عرفات وتحويلها إلى متحف في هذا المبنى الذي زرناه وتجولنا فيه، فما أن دخلنا ساحة الدار والصبانة حتى كان عبق التراث والتاريخ يهمس لنا عن مراحل مرت بها الدار، وعن أجيال تعاقبت فيها وعن حكاية الصابون النابلسي الذي كان يصدّر لأنحاء العالم، لكن بكل أسف لم يتبق من هذه المصابن التي وصلت إلى 32 مصبنة قبل نهاية النصف الأول من القرن الماضي إلا القليل، وأصبحت صناعة يخشى عليها من الانقراض.
   ما إن دخلنا هذا المبنى العريق وهو واحد من حوالي 3000 مبنى تراثي في نابلس، حتى وقفت بصمت وأنا أتأمل المبنى من المدخل حتى الساحة حيث صفت الأبواب والنوافذ الخشبية التراثية للمبنى لإعادة الاستخدام بعد الترميم أو المحافظة عليها ضمن المعروضات، ولفت نظري في الساحة أيضا بعض الأبواب التي جرى تلوينها فأصبحت لوحات فنية جميلة مازجت الفن بالتراث، إضافة إلى الحجر السلطاني الصلب وقسم من هذه الحجارة والأبواب جرى جمعها من البيوت التي تهدمت بفعل الاحتلال وجرافاته خلال اقتحام البلدة القديمة وحاراتها لمطاردة المناضلين في سبيل الحرية، والمبنى قائم على نظام العقود المتصالبة التي اشتهرت بها فلسطين في معظم الأماكن، حيث الأبواب والنوافذ القوسية من الأعلى وهذه الطريقة تجعلها تحتمل الأثقال الكبيرة. وما إن بدأنا الجولة مع أحد الإخوة من المؤسسة حتى بدأت أشاهد مقتنيات قديمة متناثرة منهاجهاز عزف بيانو وآلة خياطة وأجهزة مذياع وحقيبة جلدية قديمة ذكرتني بالمرحومة والدتي التي كانت تمتلك مثل تلك الحقيبة وآلة الخياطة والمذياع القديم الذي يعمل على الكهرباء، والذي نادرا ما كنا نستمع له في طفولتنا لانعدام الكهرباء في معظم البيوت التي سكناها بين الأردن وفلسطين حتى عام 1965، إضافة لمقتنيات تراثية مثل الفخاريات والألبسة التراثية وجواريش الحبوب وغيرها، والأهم أدوات صناعة الصابون النابلسي التراثي قبل عهد المكننة.
   في تجوالنا في قاعات المبنى الجميلة التاريخية ذات الطاقات والفتحات التي كانت تستخدم لاحتياجات كثيرة لمن يسكنون البيت وخاصة حفظ الأغراض والمواد التموينية وطاقات أخرى كانت تستخدم لوضع أدوات الإضاءة كالسراج ولمبات الجاز، ونحن نصعد الأدراج الحجرية التراثية شاهدت العديد من الصور القديمة واللوحات وبعض الخزائن التراثية الخشبية، وقاعة مخصصة كمكتبة فيها قسم للأطفال، وفي القاعة السفلى لفت نظري وجود عدد من دراجات الأطفال الهوائية فسألت عنها، فأعلمني الأخ الذي رافقنا أن كل طفل يقرأ كتاب ويناقشه يكافأ بجولة في الساحة على دراجة هوائية لمدة زمنية، وهذا أدى لجلب الأطفال وتشجيعهم على القراءة وأيضا تقديم هدايا رمزية للأطفال ذكورا وإناثا.
   كانت جولة رائعة في المبنى وبتقديري أن المشروع حين اكتماله سيكون متحفا متميزا ونقطة جذب للزوار في البلدة القديمة في نابلس، كما شاهدنا زوارا حضروا قبل مغادرتنا وبدأوا بالتجوال والتقاط الصور، فهذا المتحف سيحتوي على معرض للفنون وقاعة للمحاضرات وإنتاج حرف يدوية ومتحف يروي حكايات الصابون النابلسي وسيكون متصلا بمركز قريب من الجامعة أيضا على قطعة أرض تبرعت بها الأخوات عفاف وسبأ عرفات بانتماء رائع لنابلس والتراث والتاريخ والوطن.
   ومن هناك كنت ومرافقتي د. لينا الشخشير نتجه إلى مصبنة النابلسي "البدر" والتي ما زالت قائمة ومنتجة مع تطوير للصابون المنتج كي يتمكن من المنافسة، حيث سنلتقي هناك مع الشاعر الشاب مفلح أسعد وهو زميل د.لينا في منتدى المنارة للثقافة والإبداع والذي سيرافقنا لاستكمال هذه الجولة وجولات قادمة داخل المدينة وخارجها، وهذه المصبنة كنت قد زرتها قبل هذه الجولة مع العزيز الشاب عياد شحرور صديق ابني المهندس مصطفى وأول من رافقني في جولة في نابلس حيث التقينا المرحوم معاذ النابلسي، وما أن وصلنا بوابة المصبنة حتى كان اللقاء بالشاعر مفلح والذي التقيه أول مرة شخصيا وإن كنت قد قرأت له الكثير.
   بمجرد دخولنا استقبلنا المهندس أمجد معاذ النابلسي بكل ترحاب، وحين عرفته عليَّ د. لينا والشاعر مفلح رحب بنا من جديد واستأذن منا قليلا لإكمال حديث مع زوار سبقونا للمصبنة، فاستغللت الوقت بتأمل المبنى والتقاط الصور وفي ذهني تساؤلات عدة عن هذه المباني التي تمكنت أن تقاوم الزلازل والقرون وتبقى صامدة، وعن هذه المهنة صناعة الصابون التي امتدت منذ قرون في نابلس ولكنها الآن تعاني وتكاد أن تنقرض، حيث لم يبق سوى 3 صبانات ما زالت تقاوم وتصر على الصمود وصبانة النابلسي إحداها، وما هو إلا وقت قصير حتى كان المهندس أمجد الذي أكمل دراسته في أوروبا وعاد ليواصل مسيرة العائلة في المصبنة عبر التاريخ يحدثنا عن هذه الصبانة والتي تعود إلى حوالي 850 عاما، وهي من أقدم مصابن نابلس والتي توارثتها العائلة أبا عن جد، وحدثنا عن كيفية صناعة الصابون عبر الزمن الماضي بالطربقة التراثية اليدوية قبل أن تدخل إليها المكننة والآلات، حيث كان هذا المبنى والذي ما زال محافظا على هذه الأدوات مكونا من طوابق ثلاثة وفي الطابق الأول الذي ما زال يحافظ على ذاكرة التاريخ شاهدنا الجرن الكبير الذي كانت تشعل النار تحته في غرفة سفلية تعرف باسم بيت النار حيث يتم طبخ الزيت مع نبتة (القلي) حتى يصبح صابونا لزجا فيتم فرشه في الطابق الثاني حتى يجمد ويتم تقطيعه وتغليفه.
   ومن أجل الاستمرار بهذه الصناعة التاريخية أعلمنا المهندس أمجد أنه جرى من أجل الصمود والمنافسة إحداث تغييرات على هذه الصناعة فهناك الآن صابون زيت الزيتون التراثي وصابون آخر من حليب الماعز إضافة لصابون سائل معطر باللافندر، كما أن شكل الصابون قد تغير عن الشكل المربع إلى المستطيل وتغيرت طرق التغليف.
   كما جرى حوار بيني وبينه عن المبنى وهو أيضا مقام على طريقة العقود المتصالبة، وأعلمني أن حديد الحماية للنوافذ أحضره المرحوم والده من حلب وهو من صناعة حدادين أرمن حيث أنه لا يحتوي على وسائل اللحام المعتادة ولا على البراغي، وإنما على التسخين والطرق بطرق يدوية متميزة لم تعد موجودة الآن، ولفت نظري احتفاظه بأحد الزوايا على مجموعة من الحجر السلطاني وأفادني أنه جمعها حين قامت جرافات الاحتلال بهدم العديد من المباني بالمنطقة في اجتياح 2002م، كي لا تضيع فهذه الحجارة الصلبة تعتبر نادرة الآن، إضافة لكم من الأدوات التراثية التي كانت تستخدم في صناعة الصابون وقطع تراثية أخرى مثل الفخاريات والنحاسيات.
   ودعنا المهندس أمجد بمثل ما استقبلنا من ترحاب مقدما لنا هدية هي عبارة عن عينات من نتاج المصبنة، فشكرناه على حسن الاستقبال وغادرنا فقد كان الوقت يلاحقنا ولا بد من إنجاز الجولة قبل المساء، فقد كان ضمن البرنامج زيارة المسجد الصلاحي الكبير ومسجد الحنبلي لنختم هذه الجولة بالاستراحة في مبنى الخان قبل أن نرتب موعد الجولة التالية.
   ومع نسمات عمَّان الناعمة في هذا الصباح الرمضاني الجميل أجلس في مكتبي الصغير على شرفتي العمانية محاطا بمئات الكتب واللوحات الفنية الأصلية، وتذكارات من مدن وبلدات ودول زرتها عبر مسيرتي بتوثيق بوح الأمكنة بالقلم والعدسة، فأستعيد ذاكرة زيارتي لنابلس مع شدو فيروز: "ردني الى بلادي مع نسائم الغوادي، مع شعاعة تغاوت عند شاطئ ووادي"، وأهمس صباح الخير يا نابلس، صباح الخير يا وطني، صباحكم أجمل قراء وأحبة وأصدقاء حتى نلتقي في البوح الخامس من بوح الأمكنة النابلسية.
"عمَّان 24/5/2018"


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق