الجمعة، 18 مايو 2018

سفارات الترجمة والتعريب أ.د. محمد الدعمي


إن الترجمة تشكل أهم سفاراتنا الثقافية من وإلى الثقافات الأجنبية، خاصة وأن أي تفاهم وتواصل بين دول العالم لا يمكن أن يتم وينجح دون تأسيس قنوات تواصل ثقافية، لذا، نلاحظ بأنه لا توجد سفارة رسمية بدون مستشارية ثقافية تعنى بهذا الجانب الأساس في تعزيز التواصل والتفاهم بن الدول.
حسنا فعل سمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، أمير دولة قطر السابق، عندما أطلق جائزة عالمية “للترجمة والتفاهم الدولي”، نظرا لما للترجمة والتعريب من أدوار فاعلة في التقريب بين الأمم والشعوب وحث عرى التفاهم والتعاون عبر مد جسور الحوار والتلاقح الحضاري والثقافي الذي لا بد منه الآن، شرطا مسبقا للسلام، أكثر من أي وقت مضى، خاصة مع حملات التشويه التي تتعرض لها الثقافة العربية الإسلامية عبر العالم، الغربي بخاصة في عصر لا مجال فيه لبقاء وتفاعل الضغائن والتحامل والخيلاء. والحق يقال، فإن هذه الجائزة المهمة إنما تستكمل دور سمو الشيخ الجليل بعد أن قاد عددا من مؤتمرات القمة العربية، مؤشرا لتمسكه بثقافة عربية إسلامية منفتحة على الآخر، كما فعلت عبر تاريخها المشرق منذ أن أطلق الخليفة العباسي المأمون “بيت الحكمة” للترجمة والتعريب ببغداد على عصرها الذهبي.
إن الترجمة تشكل أهم سفاراتنا الثقافية من وإلى الثقافات الأجنبية، خاصة وأن أي تفاهم وتواصل بين دول العالم لا يمكن أن يتم وينجح دون تأسيس قنوات تواصل ثقافية، لذا، نلاحظ بأنه لا توجد سفارة رسمية بدون مستشارية ثقافية تعنى بهذا الجانب الأساس في تعزيز التواصل والتفاهم بن الدول.
وللمرء أن يستذكر، في هذا السياق، أن النهضة الثقافية العربية الإسلامية لم تكن ممكنة الانطلاق والتواصل والتأثير لولا حساسية أساطين النهضة المرهفة حيال الثقافات الأوروبية، ابتداءً من رفاعة رافع الطهطاوي، وانتهاءً بالشيخ محمد عبده، ومرورا بالسيد جمال الدين الأفغاني وخير الدين التونسي إذ لعبت المقارنات والمقاربات أدوارا تثويرية نأت بالذات العربية الإسلامية عن العصر المظلم الذي شابها لقرون طوال. لقد لعبت الثقافات، الأوروبية على نحو خاص، أدوارا تحفيزية قادت إلى استجابات فكرية عربية وإسلامية ناضجة ساءلت مسببات تراجع الثقافتين العربية والإسلامية حقبة ذاك، أي إبان القرون الماضية، مقارنة بتقدم الثقافات الأوروبية، الفرنسية والألمانية والإنجليزية خاصة.
واستلهاما من تخصصي الدقيق في “الاستشراق والاستعراب”، فإن لي أن أؤكد على حقيقة مفادها بأن جميع أجيال المثقفين العرب الكبار (ما بعد مرحلة النهضة أعلاه) لم تكن لترفد الثقافة العربية بالعبقريات لولا ابتداؤها بحملات واسعة للترجمة والتعريب باعتبارات دورها، “سفارات ثقافية” عرّفت جمهور القراء العرب بآليات تفكير أبرز العقول الذكية عبر ثقافات العالم المتنوعة، من الصين إلى الولايات المتحدة الأميركية.
لذا، فقد فتحت الترجمة لنا جميعا أول أبواب التعرف والاطلاع على ثقافات العالم، ليس على سبيل الهواية وقضاء الوقت حسب، وإنما على سبيل بلوغ حقيقة مهمة، مفادها أن “المعرفة إنما هي القوة”، وهذا لعمري خدم دافعا أولا حدا بالخليفة العباسي المأمون في العصر الوسيط إلى تأسيس “بيت الحكمة” للترجمة، نظرا لأنه قد تيقن بأن الحفاظ على سطوة دولته الممتدة من الصين إلى سواحل المحيط الأطلسي لا يمكن أن تتحقق دون معرفة رأس الخلافة بكل ما توصلت إليه الثقافات الأجنبية من علوم وإنجازات في مختلف جوانب الحياة! من الفلسفة إلى الطب والهندسة، الفنون والآداب، من بين سواها من فروع العبقرية والإبداع الإنساني.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق