يذهب إدوارد سعيد إلى أن الاستشراق هو رؤية سياسية للحقيقة، رؤية ذات بنية روجت للاختلاف بين المألوف (أوروبا، الغرب،”نحن”) وبين (الشرق،”هم”). ولأنه الكيان “القوي” و”المألوف”(النص مترجم)، يجد الغرب نفسه تلقائيا في موقع علوي يحتم عليه (احتواء وتمثيل الشرقي من خلال أطر مهيمنة). وتأخذ هذه الأطر الرامية إلى الاحتواء والتمثيل أشكالا متنوعة، وتوظف تقنيات مختلفة تبعا لذلك.
حاول المستشرقون (من المؤرخين) قراءة تاريخنا العربي الإسلامي لشعوبهم، بالنظر لأن هذا التاريخ قد زخر بالدروس والعبر التي وجدها المستشرقون مهمة للغاية من أجل إنقاذ أوروبا، والعالم الغربي عامة مما أحاق به. وكدليل على ذلك يمكن أن نستذكر الجزءين العملاقين من التاريخ المعنون (محمد وخلفاؤه) الذي ألّفه ووظفه أبو الأدب الأميركي لاستلال دروس لأميركا الفتية حقبة ذاك.
يذهب إدوارد سعيد إلى أن الاستشراق هو رؤية سياسية للحقيقة، رؤية ذات بنية روجت للاختلاف بين المألوف (أوروبا، الغرب،”نحن”) وبين (الشرق،”هم”). ولأنه الكيان “القوي” و”المألوف”(النص مترجم)، يجد الغرب نفسه تلقائيا في موقع علوي يحتم عليه (احتواء وتمثيل الشرقي من خلال أطر مهيمنة). وتأخذ هذه الأطر الرامية إلى الاحتواء والتمثيل أشكالا متنوعة، وتوظف تقنيات مختلفة تبعا لذلك. ويدخل السرد التاريخي، فضلا عن أساليب التعامل مع البيانات المنتقاة من سجل الماضي ضمن الجدل الشمولي الذي يوظفه الاستشراق لتدبر الشرق، الشرق العربي والإسلامي على نحو خاص.
ولا أشك في أن أهمية ماضي الإقليم العربي بالنسبة لأوروبا لا تنبع من كونه أرض الديانات السماوية الثلاث Bible Land فحسب، بل تنبع كذلك من أنه الماضي الشرقي الوحيد الذي عايشته أوروبا واصطدمت به وتعاملت معه حتى نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، حسم التنافس، فارتفعت كفة ميزان القوى لصالح أوروبا. لذا، فقد غدا هذا الشرق، بالنسبة لأوروبا، هو الشرق الكلاسيكي والمنافس.
وقد اعتصر الناقد “إرك مير” Meyer جدل إدوارد سعيد، إذ لاحظ تطابق منهج الاستشراق التاريخي مع التركيب النحوي للجملة الإنجليزية. يقول هذا الكاتب: “إذا ما اعتبرناه جملة فوق ـ نصّية، فإن البناء الآيديولوجي للسرد التاريخي الذي يضطلع به الاستشراق الرومانسي يمكن اختزاله على غرار كتاب هيجل فلسفة التاريخ، حيث يهزم الغرب، فاعلا، الشرق، مفعولا به، في المعركة العالمية للهيمنة التاريخية”. وبحسب هذا المنطق، فإن تسجيل تاريخ الشرق من قبل الاستشراق إنما يتولد من رغبة امبراطورية استحواذية، رغبة ترنو إلى وضع الشرق وماضيه بين مطرقة الإرادة الغربية وسندان مخططاتها المستقبلية، على طريق إنتاج (تاريخ جديد للعالم)، وهو سرد تاريخي يجسد إرادة القوة الغربية بوصفها (ضرورة تاريخية) بضمن (نظام عالمي جديد) له تبرير متجذر في التاريخ. وتعبر حركة تسجيل التاريخ في الفكر الاستشراقي عن هذا الدافع الاستحواذي الأناني، برغم تلونه وتشكله ضمن تنوعات أخرى من الدوافع المبطنة والإرهاصات الشائكة، اجتماعية واقتصادية وفردية، إرهاصات تتصل بشخص المستشرق ذاته. ولكن المستشرقون، يدا بيد مع مجايليهم من الكتّاب والمرتحلين والشعراء الرومانسيين، لا يمكن أن يفلتوا من وطأة الوعي بفوقية إمبراطورية وارادة أخاذة للهيمنة على (الآخر)، بغض النظر عن تنوع دوافعهم. وهي إرادة ترنو إلى الاستحواذ على تاريخ العالم من خلال (كما يعلن مير): “تشكيل سرد تاريخي يؤول إلى تبيان تفوّق الحداثة الأوروبية على الشرق اللامنطقي، باعتبار أن الحداثة الأوروبية تمثل النظام الثقافي السائد، ويبقى النزوع الصادق إلى التحرير (تحرير الآخر، الشرقي، العربي) الذي يميز الهيلينية الرومانتيكية حبيسا في خدمة بلوغ الهيمنة المطلقة على الشرق، بوصفه امتدادا واقعيا لا مفر من القبول به”.
والطريف هو أن لم يستثنِ مير الشعراء والكتّاب الرومانسيين من الرضوخ لهذا الوعي الوسواسي بـ”الهيمنة الامبريالية”، باعتبارها أمرا واقعا وشديد الإغراء يصعب الإفلات منه. وعلّة ذلك، مرة ثانية، هي وقوع العقل الغربي أسيرا في دائرة تفكير ذهنية شمولية نتجت عن استجابات فكرية عتيقة وموروثة، وهي جزء من روح العصر ZEITGEIST . هذه ذهنية تنظر إلى الشرق نظرة دونية مستضعفة. ولكن يلاحظ المرء أن التحامل على الماضي العربي الإسلامي خاصة كان أكثر شيوعا وأشد وقعا (مقارنة بأساليب التعامل مع تواريخ الشعوب الشرقية الأخرى)، إذ عبّرت الكتابات الاستشراقية عن خوف مؤرق من الإسلام ومن العرب. هذا خوف مترسب من ماضٍ سحيق، يجد تعبيراته في تراكمات نفسية ـ جماعية معقدة، عدائية وشديدة الحساسية تصل حد الرهاب من الإسلام وطاقاته العقائدية والعسكرية في العصر الوسيط، فارزا ما سمي بـــISLAMOPHOBIA، وهي عواطف عدائية مضادة لهذا الدين ولجنده العرب الذين شكلوا تحديا هدد أوروبا إقليميا وروحيا، خاصة بعد أن اقتطعت الفتوحات الإسلامية المبكرة ثلث ما كان يسمى بـ”العالم المسيحي ” Christendom .
وقد تواصل الخوف من الإسلام ومن رديفه ومادته (العرب) خلال العصر الوسيط، وبقي ضاغطا حتى عصر الاستعمار الأوروبي الحديث (مرورا بالحروب الصليبية)، أي عندما وعت أوروبا أنها أقوى من آسيا وإفريقيا ماديا وعسكريا (برغم صغر مساحتها)، وهو انتشاء القوة النابع من الشعور في أنها أقوى من أقرب جيرانها. ولا ريب في أن العداء الغربي للعرب وللإسلام، واعيا أو غير واعٍ، إنما هو شكل من أشكال الثأر النفسي، كما عبرت عن ذلك كتابات أذكى العقول في أوروبا، وهذه خلاصة يمكن اعتمادها، ليس لدفع تواريخ المستشرقين جانبا، بل لتوظيفها على سبيل إدراك أدق وأعمق لمكنونات العقل الغربي وآليات تعامله مع حضارتنا، ماضيا وحاضرا.
يذهب إدوارد سعيد إلى أن الاستشراق هو رؤية سياسية للحقيقة، رؤية ذات بنية روجت للاختلاف بين المألوف (أوروبا، الغرب،”نحن”) وبين (الشرق،”هم”). ولأنه الكيان “القوي” و”المألوف”(النص مترجم)، يجد الغرب نفسه تلقائيا في موقع علوي يحتم عليه (احتواء وتمثيل الشرقي من خلال أطر مهيمنة). وتأخذ هذه الأطر الرامية إلى الاحتواء والتمثيل أشكالا متنوعة، وتوظف تقنيات مختلفة تبعا لذلك. ويدخل السرد التاريخي، فضلا عن أساليب التعامل مع البيانات المنتقاة من سجل الماضي ضمن الجدل الشمولي الذي يوظفه الاستشراق لتدبر الشرق، الشرق العربي والإسلامي على نحو خاص.
ولا أشك في أن أهمية ماضي الإقليم العربي بالنسبة لأوروبا لا تنبع من كونه أرض الديانات السماوية الثلاث Bible Land فحسب، بل تنبع كذلك من أنه الماضي الشرقي الوحيد الذي عايشته أوروبا واصطدمت به وتعاملت معه حتى نهايات القرن التاسع عشر الميلادي، حسم التنافس، فارتفعت كفة ميزان القوى لصالح أوروبا. لذا، فقد غدا هذا الشرق، بالنسبة لأوروبا، هو الشرق الكلاسيكي والمنافس.
وقد اعتصر الناقد “إرك مير” Meyer جدل إدوارد سعيد، إذ لاحظ تطابق منهج الاستشراق التاريخي مع التركيب النحوي للجملة الإنجليزية. يقول هذا الكاتب: “إذا ما اعتبرناه جملة فوق ـ نصّية، فإن البناء الآيديولوجي للسرد التاريخي الذي يضطلع به الاستشراق الرومانسي يمكن اختزاله على غرار كتاب هيجل فلسفة التاريخ، حيث يهزم الغرب، فاعلا، الشرق، مفعولا به، في المعركة العالمية للهيمنة التاريخية”. وبحسب هذا المنطق، فإن تسجيل تاريخ الشرق من قبل الاستشراق إنما يتولد من رغبة امبراطورية استحواذية، رغبة ترنو إلى وضع الشرق وماضيه بين مطرقة الإرادة الغربية وسندان مخططاتها المستقبلية، على طريق إنتاج (تاريخ جديد للعالم)، وهو سرد تاريخي يجسد إرادة القوة الغربية بوصفها (ضرورة تاريخية) بضمن (نظام عالمي جديد) له تبرير متجذر في التاريخ. وتعبر حركة تسجيل التاريخ في الفكر الاستشراقي عن هذا الدافع الاستحواذي الأناني، برغم تلونه وتشكله ضمن تنوعات أخرى من الدوافع المبطنة والإرهاصات الشائكة، اجتماعية واقتصادية وفردية، إرهاصات تتصل بشخص المستشرق ذاته. ولكن المستشرقون، يدا بيد مع مجايليهم من الكتّاب والمرتحلين والشعراء الرومانسيين، لا يمكن أن يفلتوا من وطأة الوعي بفوقية إمبراطورية وارادة أخاذة للهيمنة على (الآخر)، بغض النظر عن تنوع دوافعهم. وهي إرادة ترنو إلى الاستحواذ على تاريخ العالم من خلال (كما يعلن مير): “تشكيل سرد تاريخي يؤول إلى تبيان تفوّق الحداثة الأوروبية على الشرق اللامنطقي، باعتبار أن الحداثة الأوروبية تمثل النظام الثقافي السائد، ويبقى النزوع الصادق إلى التحرير (تحرير الآخر، الشرقي، العربي) الذي يميز الهيلينية الرومانتيكية حبيسا في خدمة بلوغ الهيمنة المطلقة على الشرق، بوصفه امتدادا واقعيا لا مفر من القبول به”.
والطريف هو أن لم يستثنِ مير الشعراء والكتّاب الرومانسيين من الرضوخ لهذا الوعي الوسواسي بـ”الهيمنة الامبريالية”، باعتبارها أمرا واقعا وشديد الإغراء يصعب الإفلات منه. وعلّة ذلك، مرة ثانية، هي وقوع العقل الغربي أسيرا في دائرة تفكير ذهنية شمولية نتجت عن استجابات فكرية عتيقة وموروثة، وهي جزء من روح العصر ZEITGEIST . هذه ذهنية تنظر إلى الشرق نظرة دونية مستضعفة. ولكن يلاحظ المرء أن التحامل على الماضي العربي الإسلامي خاصة كان أكثر شيوعا وأشد وقعا (مقارنة بأساليب التعامل مع تواريخ الشعوب الشرقية الأخرى)، إذ عبّرت الكتابات الاستشراقية عن خوف مؤرق من الإسلام ومن العرب. هذا خوف مترسب من ماضٍ سحيق، يجد تعبيراته في تراكمات نفسية ـ جماعية معقدة، عدائية وشديدة الحساسية تصل حد الرهاب من الإسلام وطاقاته العقائدية والعسكرية في العصر الوسيط، فارزا ما سمي بـــISLAMOPHOBIA، وهي عواطف عدائية مضادة لهذا الدين ولجنده العرب الذين شكلوا تحديا هدد أوروبا إقليميا وروحيا، خاصة بعد أن اقتطعت الفتوحات الإسلامية المبكرة ثلث ما كان يسمى بـ”العالم المسيحي ” Christendom .
وقد تواصل الخوف من الإسلام ومن رديفه ومادته (العرب) خلال العصر الوسيط، وبقي ضاغطا حتى عصر الاستعمار الأوروبي الحديث (مرورا بالحروب الصليبية)، أي عندما وعت أوروبا أنها أقوى من آسيا وإفريقيا ماديا وعسكريا (برغم صغر مساحتها)، وهو انتشاء القوة النابع من الشعور في أنها أقوى من أقرب جيرانها. ولا ريب في أن العداء الغربي للعرب وللإسلام، واعيا أو غير واعٍ، إنما هو شكل من أشكال الثأر النفسي، كما عبرت عن ذلك كتابات أذكى العقول في أوروبا، وهذه خلاصة يمكن اعتمادها، ليس لدفع تواريخ المستشرقين جانبا، بل لتوظيفها على سبيل إدراك أدق وأعمق لمكنونات العقل الغربي وآليات تعامله مع حضارتنا، ماضيا وحاضرا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق