ب. حسيب شحادةجامعة
هلسنكي
ولد
يوحنا سكوندس المعروف أيضًا بالكنية ”فم الذهب/ذهبي الفم“ (Chrysostom في اليونانية و Golden mouthed في الإنجليزية و bouche d’or بالفرنسية، أو: لسان المسيح الفصيح، كما قال الشيخ ناصيف اليازجي أو الجليل في القديىسين) في أنطاكية، وتيتّم
من أبيه السرياني الذي كان ذا منصب عال في الجيش الروماني بعد ولادته بزمن قصير، والأم اليونانية أنتوسة، ترمّلت وهي في العشرين من عمرها. المتأخرون في القرن السادس للميلاد أطلقوا
عليه هذا النعت ”فم الذهب“. لم تتزوج بل كرّست كلّ وقتها من أجل تنشئة
ابنها تنشئة مبنية على الحقّ والأخلاق السامية، في مجتمع غارق في الشرّ والخلاعة
والترف. تعمّد يوحنا عام ٣٧٠،
تتلّمذ على ليبانيوس (Libanios) الخطيب الفذّ الوثنيّ في المنطق والبلاغة
وعلى أندروغاثيوس (Androgathius) في الفلسفة، وأخد بدراسة الطريقة الأنطاكية
في التفسير الكتابي وهو المنهج اللغوي أو الحرفي، التاريخي. ودافع عن المستضعفين بكونه محاميًا ورُسم شمّاسًا سنة ٣٧٥، وكاهنا عام ٣٨٦،
وأسقفا عام ٣٨٩. عاش حياة
تقشّف وتنسّك في ضواحي أنطاكية في الصحراء عشر سنوات، واستظهر الكثير من الكتاب المقدّس.
ذاع صيته
في الخِطابة والوعظ في خلال كهنوته واسقفيته، ١٦ سنة.
وصلتنا ٧٠٠
موعظة كاملة من تأليفه، وهو سيّد الكلمة وصاحب الرأي الحرّ، وكان له باع طويل في
تقويم الاعوجاج في الكنيسة، ولا سيّما مقارعة الإكليروس المنحرف. بعد وفاة والدته أصبح بيته ديرًا وحرَص على
لجم شهوة البطن والغضب، تنسّك في جبال أنطاكيا نحو ستّ سنوات، وعاش مع الآخرين
عيشة مشتركة متقشفة. وأنطاكيا
كانت إحدى أعظم أربع مدن في الإمبراطورية الرومانية: روما والقسطنطينية والإسكندرية وسكّان أنطاكيا كانوا من الرومانيين واليهود
والإغريق والسوريين ونصفهم مسيحيون. وفي عظات
فم الذهب وصف لحياة الناس في المدينة،
بخل
وفساد، فجور وترف، اهتمام شديد بالمسرح والمباريات.
عاش
يوحنا فم الذهب فقيرًا، استأسد ضد الظلم، ناضل ضد الفساد والربح الرخيص بموهبة
خطابية نادرة، ولقِّب بخطيب المدينتين، أي أنطاكية والقسطنطينية. كان
مثالًا للتواضع والبساطة، مأكله
بسيط ولباسه خشن، وزّع
ماله على المساكين، أطعم
آلاف الفقراء في أنطاكية، تفقّدهم
في بيوتهم، زار المرضى والمساجين، شيّد المشافي والملاجىء. لذلك كثُر ناقدوه ومعارضره، ونُفي إلى أرمينية لمدة ثلاث سنوات. وممّا كتب من منفاه للشمّاسة أولمبيا: ”من الحقّ أن تُعدّي من مصَف العذارى وإن كنت
متزوجة، فالعذراء في نظر بولس ليست تلك التي لا تعرف الزواج، بل تلك التي تجعل
الربّ موضوع اهتمامها. والمسيح
نفسه يُظهر فضل المحبّة على البتولية“
(مثل
العذارى، الرسالة ٨ :٤). ”شيء واحد يا أولمبيا،
يجب الخوف منه، محنةٌ واحدة، الخطيئة.
لم أكفّ
عن القول، ولن أكفّ عن ترديد أن
شيئًا واحدًا من شأنه أن يحُزّ في نفسنا:
الخطيئة (الرسالة ٧:١). نفاه خصومه عام ٤٠٧ إلى مدينة بيتيوس الواقعة على شاطىء البحر الأسود
الشرقي، وفي طريقه إليها قضى نحبه في ١٤ أيلول من العام ذاته. وفي الرسالة ١٩٣ ورد: ”المجد
لله في كل حال … لا تكفّ
عن ترديد هذه العبارة؛ واحمل الآخرين على ترديدها. هذه العبارة كانت داعية إلى إكليل أيوب، هذه العبارة التي هزمت إبليس؛ وهي التي تُزيل كلّ اضطراب. فطيّب بها كلما يحلّ بك“. عارض ظلم الملكة افدوكيا زوجة اركاديوس
الضعيف، فسخطت عليه ونُفي مرتين، وفي الثانية تنيّح في ١٤ أيلول عام ٤٠٧ ودفن
رفاته في كنيسة الفاتيكان . كانت آخر
كلماته ”المجد لله في كل شيء“.
يوحنا
أعظم الآباء اليونانيين شهرة، ويعدّ من أغزر الآباء انتاجًا وإفصاحا، ولذلك لقّب
بفم الذهب وثمّة رأي آخر ذكره سعيد ابن بطريق (٨٧٧-٩٤٠) في تاريخه الشهير ”وانما سُمّي يوحنا فم الذهب لأن امرأة ندبتهُ عند موته فقالت: يا يوحنا يا فم الذهب. فسمي فم الذهب. ص. ١٥٤“
(إنها
أسطورة؛ الكتاب متوفر على الشبكة العنكبوتية). تناول مواضيعَ كثيرة مستمدّة من الحياة اليومية والملكوت، مستندًا في كلّ
ذلك على المعين الذي لا ينضب، الكتاب المقدس وتراث الآباء السابقين. تستخدم الكنيسة السريانية استيخاراته أي
أناشيده، ويعتبره الأرمن
قِدّيسًا لهم وقد نُقلت معظم أعماله إلى اللغة الأرمنية. ساهم ثراثه، ليس في
تطوير الفكر المسيحي شكلًا ومضمونًا فقط، بل في الأدب الأرمني أيضًا.
في مجال
الأبحاث كتب في: الحياة
الرهبانية، مقارنة بين الملك
والراهب؛ في الندامة؛ ضد مغتابي الحياة الرهبانية؛ تحريض لثيودورس للرجوع إلى حياة
التنسّك وترك الفتاة هَرميونا؛ في الكهنوت موجّه للصديق الحميم باسيليوس، ٦ أجزاء
هامّة وهو أكثر آثاره انتشارًا، ويعتبر جوهرة الكتابات المسيحية، مدوّن بأسلوب
حواري، وفي الجزئين الثالث والرابع يعالج موضوع مسؤولية الكاهن وكيفية العمل: مسؤول عن رعيته، يحمي العذارى والأرامل، ينشر
العدل والاستقامة، يعظ
ويدافع عن الإيمان، يعامل الآخر بالتي هي أحسن بالرغم من أخطائهم؛ إلى أرملة شابة؛
في عدم تكرار الزواج؛ في البتولية (بولس الى
الكورنثيين ٧: ٣٨)؛ في شأن أخوات المحبّة؛ في المخالطات
الرهبانية؛ في المجد الباطل؛ ضد بناء التماثيل؛ إلى ستاجيريوس الذي يعذّبه
الشيطان؛ في أنه ما من أحد يُلحق الأذى إلا بنفسه؛ في عناية الله. وممّا جاء في الكهنوت المسيحي: ”ليكن الفارق بين الراعي ورعيته بمقدار ما
بين العاقل والمخلوقات غير الناطقة ان لم يزد ... لأنّ من يؤتمن على خراف المسيح الناطقة عليه أولا أن يحتمل عقوبة ضياع
الخراف، عقوبة تفوّق الأمور المادية،
عقوبة تمسّ حتى نفسه … إن عمل
الكاهن يسمو عن عمل العلماني بمقدار سمو الروح عن الجسد …
وفي
موضوع المواقف الدفاعية كتب: في شأن
القدّيس بابيلاس ضدّ يوليانس والأمم، يبيّن
فيها انتصار المسيحية على الوثنية؛ ضد اليهود (اليهود الغلاظ، كما ورد
في مستهل تفسيره لسفر التكوين، قسم كبير من مستمعيه في أنطاكيا كانوا من اليهود
المتديّنين) والوثنيين الذين
رفضوا المسيا، وهنا يظهر لاهوت
المسيح على ضوء أقوال أنبياء العهد القديم.
تُكوّن
العظات (محفوظة في مكتبة
أكسفورد) العمود الفقري
لكتابات يوحنا، يرمي فيها إلى شرح
الأسفار المقدّسة وَفق مدرسة أنطاكية المغايرة لمدرسة الإسكندرية، فالأولى تتوجّه
إلى المعنى الحرفي، واتكأ يوحنا على كتابات بولس. في العظة ٣٢: ٣ ورد: ”لم نُعطَ الكتابات المقدسة لكي نبقيها في
الكتب، بل لكي نحفرها، بالقراءة والتأمّل، في قلوبنا. الناموس يجب أن يُكتب على ألواح من لحم، على قلوبنا“. وقد شملت عظاته، كما ذكرنا، الكتاب المقدّس بعهديه، وفي بعض المرّات دامت ساعتين. عن العهد القديم هناك: سفر التكوين، ٨٥
مزمورا، أشعيا، غموض الأنبياء، حول حنّة، داؤود وصموئيل. وفي العهد الجديد: ٩٠ عظة
حول إنجيل متّى وأظهر أن الابن مساوٍ للآب في الجوهر؛ ٨٨ عظة موجزة حول إنجيل
القديس يوحنّا؛ في أعمال الرسل ٦٢ عظة؛ الرسالة إلى الرومانيين ٣٢ عظة؛ رسالتا
الكورنثيين ٨١ عظة؛ الرسالة إلى الغلاطيين؛ رسالة أفسس ٢٤ عظة؛ رسالة فيليبي ١٥
عظة؛ رسالة كولوسي ١٢ عظة؛ رسالتا
تسلونيكي ١١ عظة؛ في الرسالة إلى تيموثاوس وتيطس وفيلمون ٤١ عظة؛ الرسالة إلى
العبرانيين ٣٤ عظة. وثمة
عظات عقائدية وطقسية ودفاعية حول تنزّه الله عن الإدراك، وله ثماني عظات في المعمودية اكتشفت عام ١٩٥٥ في جبل آثوس، وعظات ضد اليهود. وفي موضوع رسائله فقد وصلتنا ١٧ رسالة إلى
أولمبيا ورسالتان إلى البابا أنوشينتوس.
ونشر له
ميمران في مجلة المشرق س. ١٢، ع. ٤، نيسان ١٩٠٩؛ الأول حول يوم الخميس الكبير
والثاني عن الفصح المجيد.
يؤمن
يوحنا فم الذهب بطبيعتي المسيح ”عندما
أقول إنه (المسيح) واحد أعني الاتّحاد لا الامتزاج؛ فليس هنالك
طبيعة انقلبت إلى أخرى، بل طبيعة متّحدة بأخرى“. يبدو أن يوحنا لم يصرّح بوجود خطيئة أصلية. ويعتبر يوحنا رائدًا في الافخارستيا فيقول مثلا ”إنّنا نلمس بأيدينا الجسد، الذي عاش
على الأرض، وأن المسيح، في عشائه السرّي، يشرب دمه؛ وإنّ المسيح يحضُر حضورًا جوهريًا في الخبز والخمر. وكثيرا ما يدعو الأفخارستيا ذبيحة، ويعلن أنها لا تختلف عن ذبيحة الصليب“. وبخصوص التوبة قال ”الله وحده يجب أن يراك في اعترافك،
الله
الذي لا يحقّرك بسبب خطاياك، بل
يحرّرك من خطاياك بسبب اعترافك. ولست
تمثُلُ، في هذه المحكمة، أنت والشهود، بل أنت تحكم فيها على نفسك“. ويقول
يوحنا أيضا إنّ سلطة الكاهن لا تقتصر على التعميد بل تشمل مسحة المرضى التي تمحو
الخطايا وهو حثّ على المعمودية المبكّرة، معمودية الأطفال. وفي نظره الاختلاف ما بين العلماني والراهب هو أن الثاني يتقيّد بنذر
العفّة والفقر وفي ما خلا ذلك فكلاهما في خدمة المسيحيين، من صلاة ومثل صالح
ورسالة الخدمة. تأمّل في ما يورده في
هذا الشأن: ”مهما صُمتَ، ومهما
اضّجعتَ على الحضيض، ومهما طَعِمتَ الرماد وذرفت الدموع، فإنّك لا تكون قد قمتَ
بشيء عظيم إذا لم تكن مفيدًا للغير“. وكتب إلى
أحد قساوسته يقول ”إذا رأيت
بحر الاضطهاد قد هاج فلا تيأس ولا تهمل شيئًا ممّا التزمت به، اهدم نفاق الوثنيين،
وشيّد الكنائس واهتمّ بخلاص النفوس“.
عن
الخطية والتوبة يقول: ”لا تيأس،
حذارِ اليأس! إنّي أكرر ألف مرّة: إذا خطئتَ كلّ يوم فتُب كل يوم … نعم إنّك ستخلص لأنّ الربّ يشمل البشر بعطفٍ
لا حدّ له … توبتك وحدها لا
تستطيع أن تمحو جرائمك، ولكنها
تستطيع ذلك إذا رافقتها رأفة الله غير المحدودة … ذنبك ذنب إنسان، وهو من
ثم محدود، والرحمة التي تغفر هي
رحمة الله، وهي من ثمّ غير
محدودة“ (العظة ٣١ في رومية). ويقول ”بين الأمجاد الباطلة للشيطان التفاؤل بالأيام وبالفرص وبالكلمات العفوية … وأيضًا التشاؤم. أحيانًا عندما يترك إنسان منزله يرى رجلًا بعين واحدة أو أعرج فيعتبر هذا
تشاؤمًا .. هذه هي أمجاد الشيطان
الباطلة لأنها ألاعيبه .. فإن لقاء
البشر لا يجعل يومنا سيئًا بل ارتكاب الخطية“.
وفي إحدى
عظاته يقول رسول الشعب ” لقد
أقمنا المسيح على هذه الأرض لكي ننشر النور … لكي نكون الخميرة… لكي نكون
كهولًا بين الأحداث، روحانيين
بين المادّيين، بذارًا لثمار غزيرة. الأعمال تقوم مقام الكلام أفضل قيام. لو سلكنا سلوكًا مسيحيًا حقيقيًا لزالت
الوثنية“. وعن الصلاة نقتطف
نبذا مما قال: ”بداية كل خير وسبب كل
خلاص وميناء الحيوة الأبدية … مناجاة
الباري تعالى … أمر مشترك بين
الملائكة والبشر … توطد
النفس وتقويها أكثر من تقوية الخبز للجسد …
فكما أن
السمك يعيش في استكنانه بالماء، هكذا أنت، فإنك لن تعيش إلا في الصلوة… “. وفي عظة أخرى نقرأ ”ينبغي أن لا نندب وننوح على أمواتنا بعد أن
حقّق لنا سيّدنا لهُ المجد قيامة الاموات.
فما
بالنا نبكي بحرقة ونتّخذ النائحات والنادبات، وقد قهر سيدُنا يسوع المسيح الموتَ وانتزع ملكه وسلطانه، ما بالك يا هذا تنوح نوحًا مزعجًا وتكابد
أحزانًا وهمومًا وغمًا، وقد صار
موتنا نومًا عارضًا“.
المطران
ميخائيل عساف، سنكسار الروم الكاثوليك.
حريصا: المطبعة البولسية ١٩٤٨.
المطران كيرلّس سليم
بسترس، الأب حنا الفاخوري، الأب جوزيف العبسي البولسي، تاريخ الفكر المسيحي عند
آباء الكنيسة. ط. ١، بيروت: المكتبة البولسية، ٢٠٠١، ص. ٦٠٩-٦٢٧.
http://arabic.coptic-treasures.com/patrology/john-chrysostom.php
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق