الأحد، 11 يونيو 2017

الحب والثورة في رواية "أعشقني" للدكتورة سناء شعلان


 دار أمواج للنشر والتوزيع، ط3، عمان /الأردن 2016
بقلم / أيمن دراوشة
هي رواية حب عزّ وجوده في عالمنا المعاصر، الذي أصبح فيه الإنسان مجرد آلة تسير وفق معلومات رقمية مخزنة.
تقول الراوية على لسان بطلتها: إنَّ الحب هو الذي يشكل معالم وجودنا "الحب هو الكفيل بإحياء هذا الموات، وبعث الجمال في هذا الخراب الإلكترونيّ البشع، وحده القادر على خلق عالم جديد يعرف معنى نبض القلب". (الرواية. ص 64)
تدور أحداث الرواية في الألفية الثالثة على مجرة على أحد الكواكب، حيث كل شيء إلكتروني حتى الإنجاب، ويسير الجميع وفق قوانين صارمة لا يستطيع أحد تخطيها وإلا واجه الغرامات والسجن وحتى الموت.
في الرواية ثمة شخصيات قليلة، شمس والتي نستطيع أن نعرف صفاتها من خلال اسمها فهي المرأة المتمردة والثائرة على القوانين، والمثقفة التي تسعى إلى تغيير الواقع المزري، والتي تستطيع من خلال عشقها لخالد أن تقود الناس وتصبح لها جماهيرية كبيرة، لدرجة إطلاق لقب نبيّة عليها، فهي التي تنشر معاني الحب والحرية والكرامة في المجرة، التي وعبر حكومتها تعتقلها وتزج بها في السجن لتلاقي العذاب الذي لا ينتهي إلا بموتها.
وخالد الرجل الاستثنائي الذي يقع في غرام شمس، والذي لا يظهر إلا من خلال مذكراتها ورسائله إليها، وهو المعول عليه لإعادة البشرية إلى رشدها من عالم جنونها في الآلات المتحكمة في كل صغيرة وكبيرة في حياتها، ولم يكن اسمه خالد اعتباطيًا إنما جاء ليشير إلى بقاء الحب الطاهر، والتمرد في وجه الطغيان إلى أبد الآبدين.
وهناك باسل الضابط الذي يتفانى في عمله، فيلاحق الثوار المتمردين على قوانين المجرة ويذيقهم آلآم القتل والتشرد، حتى يصاب بجروح بلغية لا شفاء منها، ويصادف ذلك مع موت شمس، ولأنه ضابط قدم خدمات جليلة لحكومة المجرة، فقد تم الاتفاق على نقل دماغه إلى جسد شمس، وبعد أن يتم ذلك، يكتشف أن شمس (هو) حامل بجنين خالد وشمس. ومع اطلاعه على مذكرات شمس يتبدل حاله، ويتحول من مجرم لا يعرف غير القتل والتعذيب إلى إنسان مؤمن بأفكار شمس وخالد، فيقرر الاحتفاظ بالجنين الذكر، الذي ستطلق عليه شمس اسم "ورد" وكانت قد خمنت أنه أنثى ولكنه في النهاية يكون ذكرًا...
أما اسم باسل فجاء ليقول لنا إنه رجل يستطيع أن يغير من مبادئه إذا اكتشف أنها على خطأ.
كما ظهرت شخصية المحامي بيرق نوفل الانتهازية، الذي دافع عن شمس وهي في السجن ليحصل على الشهرة، بل لم يكتف بذلك فتزوجها لينال مجد الزواج من نبيّة.
ولكنها عندما تتعرف على خالد تفارقه غير آسفة. تنتهي الرواية كما أرادتها الكاتبة سناء شعلان بلا جواب، تقول بعد النهاية على لسان جرترود شتاين: "ليس هناك جواب، ولن يكون هناك جواب، ولم يكن هناك جواب قط، وهذا هو الجواب". (ص 206)
إنَّ القارئ للرواية سيتعامل معها على أنها لا تقدم بشكل حيادي "ولكنها تخضع لزاوية الرؤية التي تقدم من خلالها". (إبراهيم جنداري. المنظور الروائي بين النظرية والتطبيق. مجلة آداب الرافدين. جامعة الموصل. 1993م. ص 145)
فالكاتبة تصور المكان والأحداث عبر زاوية رؤية مناسبة، ومن خلال شخصيتها شمس اختارت ان تقدم لنا مسرح الأحداث، ولا شك أنَّ العلاقة التي تربط بين الراوي وشخوصه، "تقوم أيضا بين القارئ وتلك الشخصيات بالذات". (جوزيف شريم. الدليل للدراسات الأسلوبية. بيروت: المؤسسة الجامعية للنشر. 1984م. ص18) وإذا أفلح الروائي في فنه الروائي فإنَّ السبب يكون بنجاحه في بناء تلك العلاقة، وهذا العلاقة المتبادلة أطلق عليها بالنقد وجهة النظر أو التبئير.
ويُعَرِّفُ بوث زاوية الرؤية بقوله: "إننا متفقون جميعاً على أن زاوية الرؤية، هي بمعنى من المعاني "مسألة تقنية ووسيلة من الوسائل لبلوغ غايات طموحه". (حميد لحَمداني. "بنية النصّ السّردي" من منظور النقد الأدبي. الدار البيضاء-بيروت: المركز الثقافي العربي للطباعة والنشر والتوزيع. ط2. 1993. ص 46)
فالمسألة متعلقة بتقنية الحكي، والتي يختارها الراوي من أجل توصيل غايته، التي يجب أن تكون طموحة، "أي تُعَبِّر عن تجاوز معين لما هو كائن، أو تُعَبِّر عمَّا هو في إمكان الكاتب، ويُقصدُ من وراء عرض هذا الطموح التأثير على المروي له أو على القُرَّاء بشكل عام. ولا يهمنا هنا أن نتحدث عن مضمون هذا الطموح، ولكن عن الطرق المختلفة لزوايا النظر التي يُعَبَّرُ بواسطتها عنهُ". (المرجع السابق. ص 46)
تحدث الشكلاني الروسي توماتشفسكي عن نمطين من السرد هما: السرد الذاتي والسرد الموضوعي، ويكون الكاتب في السرد الموضوعي مطلعا على كل شي، ويعرف ما يدور في خلد الشخصيات وأفكارها. أمَّا السرد الذاتي فأننا نتابع الحكي من خلال عيني الراوي متوفرين على تفسير لكل خبر، متى وكيف عرفه الراوي. (انظر المرجع السابق. ص 46. وللاستزادة انظر: نظرية المنهج الشكلي –نصوص الشكلانيين الروس-ترجمة إبراهيم الخطيب. بيروت: مؤسسة الأبحاث العربية. ط1. 1982. ص 189)
يكون الكاتب في السرد الموضوعي، "مقابلًا للرواي المحايد الذي لا يتدخل ليفسر الأحداث، وإنما ليصفها وصفا محايدًا كما يراها، أو كما يستنبطها في أذهان الأبطال، ولذلك يُسمى هذا السرد موضوعيًا لأنه يترك الحرية للقارئ ليفسر ما يحكى له ويُؤولهُ، ونموذج هذا الأسلوب هو الروايات الواقعية." (حميد لحميداني. ص 47)
أما السرد الذاتي، فالراوي هو مَنْ يقدم الأحداث وفق وجهة نظره، "فهو يخبر بها، ويعطيها تأويلًا معينا يفرضه على القارئ، ويدعوه إلى الاعتقاد به. نموذج هذا الأسلوب هو الروايات الرومانسية، أو الروايات ذات البطل الإشكالي". (المرجع السابق. ص 47)
وقد استطاعت الروائية ومن خلال تقنية الكتابة أن تعبر عن أفكارها دون تدخل مباشر منها، ولجات إلى أسلوب اليوميات والرسائل لتجعل الشخصيات تتحدث عن نفسها وتعبر عن مكنونات نفسها.
وشمس لا تظهر هي الأخرى إلا من خلال مذكراتها، فظهورها الأول كانت ممدة على سرير المستشفى، وجسدها مثخن الجراح من جراء التعذيب من قبل حكومة درب التبانة، ولكنها ما زالت تقاوم حتى تم القضاء عليها وقتلها تحت التعذيب الرهيب.
وهنا قرر الأطباء الإنسانيين والآليين نقل دماغ ضابط حكومي رفيع أصيب إصابة بالغة من قبل المتمردين والثائرين إلى جسدها الصغير الجميل، وتجري العملية بنجاح، غير أن الضابط يبقى يصارع ذاته المتشظية بين فكر رجل وجسد امرأة كان عدوًا لها، فقد قتل الكثير من رفاقها.
هي ثائرة لها قيمتها لدى حزبها وحتى الشعب الذي ثار وتظاهر عند سماع مقتلها، واستمر في التظاهر مطالبًا تسليم جثتها دون جدوى.
يحصل باسل المهري على يومياتها، المكتوبة بطريقة يدوية بعيدًا عن الآلات الإلكترونية.
تتحدث فيها عن حبيبها خالد، وعن النطفة التي زرعها فيها لتكون ثمرة حبهم في عالم لا يعرف المشاعر التي انقرضت من زمن بعيد، يقرر أنَّ خالدًا وشمس قد اطلقا على الجنين الأنثى اسم ورد، وهذه اليومات مكتوبة لهذا الجنين المستقبلي كي يعرف والديه والحياة التي تنتظره.
 أما لماذا ورد فهذا لأن" الوردة نبات جميل له روائح زكية، وملمس مخمليّ وألوان جميلة، هذا الكائن النباتي انقرض منذ زمن طويل". (ص 80) وذلك بسبب الحروب الهيدروجينية التي أبادت كل الغطاء النباتي. كما أنَّ الورد هو اسم لحيوان منقرض اسمه الأسد وهو حيوان مفترس وقوي، "ونبيل كذلك، يعيش بكبرياء، ويموت بكبرياء، ويرفض الجيف، ويعتزّ بقوته"، فإطلاق اسم ورد لم يكن اعتباطيًا، لأنَّ خالدًا وشمس نذرا الجنين ليكون رمزًا للجمال والقوة وحبهما.
وخالد وجد في شمس الحلم الجميل، الذي سينقضه من براثن الحياة الجامدة، "أريد أن أقبلك بلا حدود كي أنقذ روحي من الهلاك، أريد منك أنثى كي تملأ الأرض خصبا". (ص 89) فخالد دون أنثى صحراء قاحلة ولا بُدَّ من "شمس" تعيد له خصوبته واخضراره.
تخاطب ورد قائلة: إنَّ الله وحده يستطيع أن يهبها الخلاص وأمها، ولكن من هو الله يا ورد، "إنّه تلك القوة التي تملأ عليك الظلمات نورًا، وتشعرك بأن هناك قوة خفية ترعاك، وتدعمكِ، فتأنسين بها من وحشة العالم. سأحدثك طويلًا عن الله في الأيام المقبلة". (ص 96)
أمَّا باسل فإنه يشعر بالوحدة فقد تخلى عنه الجميع حتى زوجته التي نفرت منه، واستحوذت على تعويضاته المالية، وابتعدت عنه بعد أن تحول إعجابها به إلى نوع من الاستهزاء والبغض، فلم يعد بالنسبة إليها الزوج صاحب النفوذ بل مجرد مخنث لا قيمة له.
لذا يفكر باسل بعد قراءة يوميات ورسائل شمس وخالد أن يكون كريمًا معها كونها وهبته جسدها، ويقرر الاحتفاظ بالجنين.
تنتشر أفكار شمس وتملأ الدنيا، وأنصارها يطالبونها بأن تقود "ثورة تصحيحية في المجرة". (ص 102) لتعيد المجد الغابر، وترجع الأمور إلى نصابها، و" تكف أيدي الرجال الآليين الذين غدوا قوة ضاربة في عمق الوحدة البشرية وفتيلة انفجار يهدد الجميع بمستقبل قاتم يستعبد الإنسان، ويحوله إلى عبد لمولاه الآلة". (ص 102)
وهي تؤمن بالثورة، ولكنها تؤجل إعلانها لحين عودة خالد المختفي، فالثورة تحتاج إلى كلاهما وطاقة حبهما التي لا تقهر.
وتمني النفس بقدرة "ورد" على قيادة الثورة ضد الشيطان والآليين من بعدهما، لأن المجرة تعج أيضا بالبشر التواقيين لنور الهداية، والسير في طريق الخير إلى الله.
بداية شهرة شمس كانت عندما كتبت رواية "سير أصحاب الشّعر القصير" وهي التي جلبت لها الشهرة والمناصرين وعداء حكومة المجرة، ولا بُدَّ من ذكر أنَّ شمسًا كانت صاحبة شعر طويل مسترسل في تمرد على قوانين المجرة وقد دفعت الكثير من الغرامات بسبب ذلك.
باسل وبعد قراءة الرسائل واليوميات، تغير حاله، فبعد أنَّ مارس البطش والقتل والتشريد بحق من تسميهم الدولة بالثوار، ها هو يقول: "الآن عرفت حكمة أن أخلع جسدي الطّاغي الظّالم الخليق بالعذاب والخطيئة، لألبس هذا الجسد الطّاهر العارف بشؤون الحقيقة والنّور والهداية، فلا عجب إذن أنْ يكون اسمها شمساً، لتنير قلبي بقلبها، وتقود جسدي بجسدها، وتنير روحي المعتمة بروحها الوضيئة". (ص 155)
فشمس كانت من أنصار الحياة الروحية المليئة بالإيمان والحب، تقول: إنَّ الذين يدعون المعرفة الكلية، ويديرون ظهورهم لله، وينكرونه، فإنهم يؤمنون في دواخلهم بالله، "وما يقولون إلا صدى ضعفهم وإيمانهم المتين في أنفسهم الذي يخرج من أفواههم مكاء وتصدية بقدر حمق الأطفال وسذاجة عنادهم الغرّ". (ص 168)
وفي الرواية تم الإعلاء من قيمة الجنس الطبيعي، الذي قضى عليه التطور الكبير فهو "قوة تختزل النّماء والاستمرار والحياة، وتكفل موثوقية المحافظة على الجنس البشري بصفاته ومميزاته وحوامله ومحدداته كلها". (ص 87) فالجنس يعادل الحياة الحقة المليئة بالمسرات والحب، فهو "فعل تتكاثف فيه أدوات الجسد والروح والنفس من أجل خلق تعبير عن الحب والحياة والاستمرار والتعبير عن الفعل الجمعي بذاتيّة خاصة، وبأدوات خاصة، البشر جميعهم يملكون أدوات الجنس وآلاته الطبيعية، وفي هذه الأعضاء تسكن اللذة والسعادة والاحتواء كلها". (ص 87) فلا قيمة للتواصل بين الذكر والأنثى من خلال بنوك المني، فالحب لا يكون إلا بواسطة الجنس الطبيعي ليكون الطريق إلى الحب والأمان. إنَّ انتصار الحياة المادية على الحياة الروحية وانتشار الإلحاد، وكذلك الأمراض الجنسية أدى إلى إهمال الجنس، وعملت حكومة المجرة على القضاء عليه نهائيا. لذلك كان والدك يا ورد من الباحثين القلة الذين يعرفون سر سعادة الجسد، "ومعنى آلاته، وغرض وجود اعضائه الجنسية، ومن هنا كانت البداية، وكان حبّه لي، وعشقي له". (ص 88)
فالجنس بنظر شمس بعد أنْ عرفته من خلال جسد خالد، هو: "أن يغدو شخص ما هو حلمكِ الذي نحت على هيئة بشر بعناية كاملة". (ص 182)
وهو "الصمت والعجز والاشتهاء في لحظة استسلام روح لروح وجسد لجسد. الجنس يا ورد هو قوة في ضعف وضعف في قوة. هو كائن أسطوري ولد في قلب كلمة صغيرة خجولة. هو دليل على أنّ الجسد هو انتصار الوجود". (ص 182)
وهو "زمن تتوقف عنده الأزمان كلها". (ص 183) وهو جموح بدائي، وغضب طفولي وطلاسم تاريخية من نجح في حلها عرف معنى الخلود.
مع نهاية المذكرات يتحول باسل من الإلحاد إلى الإيمان، بل يصبح مستعدًا للمخاطرة بحياته من أجل أن ينجب الجنين، ويقرر تنفيذ ما رغبت شمس به، وهو الولادة في القمر حيث لا يد ولا سلطة لحكومة المجرة...سيأخذ ورد إلى حيث أبيه وأقاربه، حيث الحب الطاهر الذي ينشر الإيمان بغد أت لا ريب فيه.
من الكلمات التي تشي بمضمون الرواية، قبيل البداية، إذ وضعت الروائية مفتاح الرواية من خلال كلمات تحت عنوان "خالد وأسئلة الانتظار"، تقول فيها مخاطبة خالد بطل الرواية الذي لا يظهر إلا من خلال مذكراتها ورسائله إليها: "...متى يرون ملامحك النبيلة؟ متى يسمعون صوتك الشجي المترع بصوت الجبال البعيدة والرجال الأشاوس؟". (ص 5)
فخالد حقيقة وليس خيال، وهو من الرجال النادرين في عالم زائف، وتضيف على لسانها ولسان بطلتها شمس: "متى أقول لكل من يسأل عنك إنك هناك في البعيد حيث البرد والصقيع تكتب ترنيمة عشق وتصاد شموسًا وأقمارًا بصدرك العاري من الحقد والبغضاء؟! متى أقول للجميع إنك حقيقة راسخة في زمن الردة والريبة؟! متى تعود بمواسم الفرح والحبّ وجنى الحقيقة السّابحة في الأزل؟ خالد أنتظرك؟". (ص 5)


إنَّ الناس البسطاء والفقراء الذين يعانون من البطش والظلم والفساد، يحلمون بشخص كخالد له صفات قيادية يستطيع من خلالها أن يقود البشر البائسين نحو الحرية والكرامة والطهر والنقاء، والتي أفنت شمس حياتها دفاعا عنها، وما زال خالد ينادي بأعلى صوته: إنَّ الحرية والعذوبة ستسود في النهاية منتصرة على المادة والظلم والفساد المستشري.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق