الجمعة، 23 يونيو 2017

“الليالي” بين بغداد العباسية ومانشستر الفكتورية (2) بقلم البروفيسور محمد الدعمي



  • المؤكد هو أن أغلب حكايات (الليالي) هي حكايات مأخوذة من خزائن التراث والفلكلور للعديد من الأقوام التي كانت تنطق بألسن مختلفة، إلا أنها تجتمع في ذائقة شرقية ومزاج متشابك ومتشابه، كان قد عكس ذاته في الحكايات الشعبية وفي عملية مبادلتها بين ثقافات مختلفة كانت قد تلاقحت وتداخلت بفضل قوة الإسلام العولمية الفظيعة والعابرة للقارات.
    إذا كان افتتان العقل الأوروبي بــ(الليالي) قد وصل حد تكريس ريتشارد ف. بيرتون Richard F. Burton ربع قرن من سني حياته لترجمة هذا الكتاب الجوهرة إلى الإنجليزية، فإن تعابير “الوقوع في دائرة سحرها”، كما لاحظ أستاذي الدكتور محسن الموسوي ذلك في كتابه الشهير، قد أخذت مدياتها في مئات محاولات المحاكاة و”التدجين” Domestications والتكرار وإعادة الصياغة في مهادات أوروبية عن هذه الحكايات عبر الآداب الأوروبية. ابتداءً من (دي كاميرون) Decameron، وتواصلًا بالنتاجات السينمائية من نوع “حرامي بغداد” وبمدن “دزني لاند” المنتشرة عبر العالم الغربي اليوم.
    إلا أن شيوع (الليالي) في العالم الغربي لم يلقِ الضوء على الإشكالية الثانية التي حددناها في الجزء الأول من هذه المقالة، وهي إشكالية التأليف، فالأوروبيون ذهبوا إلى ما ذهب إليه الباحثون المسلمون كذلك عندما لم يحددوا اسمًا لكاتب أو لجماعة من الكتاب الذين افترضوا قيامهم بتأليفها على نحو فرقي، ففضلوا إطلاق تعبير جامع الحكايات بدلًا عن مؤلفها. لذا كان أغلب الظن هو أن الحكايات المتعددة إنما حيكت على نحو متسلسل بضمن “حكاية تأطيرية” أساس، وهي، بطبيعة الحال، حكاية شهرزاد وشهريار، وبكلمات أخرى تمثل هذه الحكاية الإناء الأساس الذي يحتوي على أعداد كبيرة من حكايات المغامرات وقصص الفرار والحظ والبخت، من بين سواها من العجائبيات. وقد لاحظ المهتمون بأن لبعض الحكايات أصولًا غائرة في القدم قد تعود إلى حقبة “دويلات المدن” في بلاد الرافدين، أو إلى عصور قديمة أخرى من تواريخ الهند ومصر وفارس والصين وسوريا وأواسط آسيا. وبذلك، يكون من شبه المستحيل تحديد اسم لمؤلف أو أسماء لمؤلفين كانوا قد أبدعوا الحكايات وأعدوها على هذا النحو التسلسلي في سياق الحكاية التأطيرية The Framing Tale.
    المؤكد هو أن أغلب حكايات (الليالي) هي حكايات مأخوذة من خزائن التراث والفلكلور للعديد من الأقوام التي كانت تنطق بألسن مختلفة، إلا أنها تجتمع في ذائقة شرقية ومزاج متشابك ومتشابه، كان قد عكس ذاته في الحكايات الشعبية وفي عملية مبادلتها بين ثقافات مختلفة كانت قد تلاقحت وتداخلت بفضل قوة الإسلام العولمية الفظيعة والعابرة للقارات.
    وهكذا يبقى لغز (الليالي) أشبه بطبيعة حكاياتها الغريبة والعصية على التحليل والتأصيل بسبب اختلاط الثقافات الشرقية مع اختلاط الحقيقة بالخيال الفني، الأسطورة بالواقع والواقع بطبائع المجتمعات وبمأثورها الفلكلوري.


هناك تعليق واحد: