الاثنين، 24 أكتوبر 2016

قَرْض كاهن وبجانبه بَركة



ترجمة حسيب شحادة

جامعة هلسنكي

 
 

في ما يلي ترجمة عربية للقصّة التي حكاها الكاهن الأكبر عبد المعين (إلعزار) صدقة إسحق عمران، أبو وضاح (١٩٢٧-٢٠١٠، كاهن أكبر رقم ١٣٥ ابتداء من ٩ نيسان ٢٠٠٤ وحتّى مماته؛ عنه أنظر:

http://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=206356)

بالعربية على مسامع بنياميم راضي صدقة (١٩٤٤- )، الذي بدوره نقلها إلى العبرية، ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.-أخبار السامرة، عدد ١٢١١-١٢١٢، ١ نيسان ٢٠١٦، ص. ٢٨-٣٠. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها؛ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.

بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة ترزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة الشقيقين بنياميم (الأمين)  ويفت (حسني، ١٩٤٦- )، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠). تدور هذه القصّة حول جدّ جدّ الراوي، الكاهن الأكبر سلامة بن غزال (طابيا) بن إسحق ١٧٨٤-١٨٥٥ الذي تيتّم من أبيه وهو طفل، وأصبح كاهنًا أكبر وهو ابن ١٥ ربيعا.

 

 

واجب إعطاء العُشر مرّتين سنويًا عند قدوم الإسرائيلي لمشاهدة وجه الله، في خلال الأيّام الواقعة ما بين اليوم الأول واليوم الأخير من عيدي الفسح والعُرش، هو فريضة مقدّسة يتحتّم على بني إسرائيل القيام بها بتقوى. الكلّ يعلم أنّ العُشر رمزي، إذ منذ قرون لا يملك السامريون أراضي زراعية، وعليه فليس في مقدورهم جلب باكورة ثمار الأرض إلى الكاهن الأكبر. إلا أنّنا بنو إسرايل السامريون، نواصل في الواقع أداء فريضة العُشر لكهنتنا، رمزًا لتقوية أواصر الصلة بين كلا التيّارين المكّونين لشعبنا، كاهن ويسرائيل. وحول تقديم العُشر أيضًا، انبثق ما يشبه الفولكلور الداخلي، وهناك من يبرّره بدُعابة نموذجية، بأن العطاء للكاهن من يسرائيل وليس بالعكس، من يسرائيل لكاهن، مصدرها بكثرة ورود الصيغةوأخذ الكاهن ملء قبضته“ [أنظر سفر اللاويين ٢:٢، ٥: ١٢] إزاءوأعطى الكاهن بإصبعه“ [هكذا في الأصل ولا وجود لمثل هذه العبارة في التوراة، هناك مثلاوأخذ الكاهن من دم الخطيئة باصبعه إلخ، أنظر سفر اللاويين ٤: ٢٥، ٣٠، ٣٤؛ ٨: ١٥؛ ١٤: ١٦، ٢٧؛ ١٦: ١٤، ١٩؛ سفر العدد ١٩: ٤].

 

للموازنة بين القول المثير للابتسام والواقع، أقصّ عليكم قصّة تدور حول كاهن أعطى من ماله قَرضًا لإسرائيلي، تمخّض عن بركة عظيمة. هذا ليريكم ويعلّمكم، أنّ بركة كبيرة، ترافق هدية الكاهن. عندما يرفع يده نحو الشعب ويباركه، وهو في قمّة فاقته، لا يبخل بنقوده المعدنية على أخيه المسكين، كما جاء في التوراة ”...فتحا تفتح يدك لأخيك ولضعيفك ولمسكينك في أرضك“ [سفر التثنية ١٥: ١١؛ أنظر: الترجمة العربية لتوراة السامريين، حقّقها وقدّم لها حسيب شحادة، المجلّد الثاني: سفر اللاويين، سفر العدد وسفر تثنية الاشتراع. القدس: الاكاديمية الوطنية الإسرائيلية للعلوم والآداب، ٢٠٠٢، ص. ٤٩٩؛ المجلد الأوّل: سفر التكوين وسفر الخروج، ١٩٨٩].

 

تتحدّث القصّة عن جدّ جدّي، الكاهن الأكبر سلامة بن غزال (طابيا)، الذي لكثرة ذنوبنا، بقي الوحيد في أسرة الكهنة الكبار، يتيما ابن أربعة أعوام، رعاه وربّاه شيوخ الطائفة، وأصبح كاهنًا أكبر ببلوغه خمسة عشر ربيعًا فقط. تزوّج فيما بعد من الامرأة الجميلة زهر بنت أبي المرجان الدنفي (زهر بنت أب سكوه) وأنجب منها ذكورًا وإناثًا وحتى اليوم، نحن الكهنة من ذريّته، وصرنا أكبر ثاني عائلة/حمولة في الطائفة بعد الدنفية/آل الدنفي.

 

وضْع أبناء طائفته الاقتصادي في تلك الأيّام كان سيّئًا جدًّا،  نتيجة أهوال الحكم التركي وضغط المحيط الذي عاشوا فيه. كلّ من كان يحصل على كِسرة خبز لأهل بيته شعر كأنّه ملك، لا عمل، وبالطبع لا رزق. في مثل هذا الوضع، استغلّ السامريون كلّ ما لديهم من موهبة للحصول على الطعام، بكل وسيلة لا تتعارض مع فرائض الله. الإيمان القوي في القلوب، هو الذي أبقاهم وشجّعهم على التكاتف والصبر. الإيمان بقدوم أيّام خير على الطائفة الصغيرة، رغم أنّهاأقلّ من كل الشعوب/الأمم/الأقوام“ (سفر تثنية الاشتراع ٧:٧) فإنّه سيتحقّق ما ورد عنهم في التوراةان يسيرا/يسرا/قليل ما كان لك معي/بين يدي/قبلي واتسع كثرة/للكثرة/في الكثرة/كترة“ (سفر التكوين ٣٠: ٣٠) [أنظر حسيب شحادة المذكور أعلاه، ج. ٢، ص. ٤٥٢-٤٥٣؛ ج. ١، ص. ١٤٠-١٤١]، إذ أنّنا جميعًا نعتبر بمثابة خِراف يعقوب.

 

اعتاد السامريون منذ القِدم، تقديم العون في كلّ مناسبة، لكلّ شخص محتاج منهم. مع الحرص على أنّ ّتقديم المال لن يُخجله. بعبارة أخرى، ألّا يُشعروه بأنّ للجميع معرفة بفاقته. هكذا نستغلّ اليوم، إعطاء الأعشار للكهنة، وتقديم مصروف عيدصمّوت هپسحلأولادنا ولأولاد أقاربنا [عيد ذكرى لقاء الشقيقين موسي وأهرون في طريقهما للقاء فرعون مصر، لإخراج بني إسرائيل من هناك، موعده خمسون يومًا قبل رأس الشهر الأّول، نيسان؛ وهنالك صموت العُرش الذي يحلّ بعد ذلك بنصف سنة، وفي هذين العيدين، تقدّم الصينيات المملوءة بالحلويات والكعك بأنواعها المختلفة كالكنافة النابلسية الشهيرة]. بهذا النحو، أنقذ أولائك الذين كان في جعبتهم قرش، سبوتًا وأعيادًا خاصّة في السنة، لكي يساعدوا الفقراء والمظلومين، ولأولائك الذين لم يوفّقوا في تجارتهم، وافتقروا بسبب انهيار اقتصادي غير متوقّع.

 

أحد أولائك المُعْوِزين في ذلك الوقت، كان إسحق ابن أبي حنونة الدنفي، أحد أصدقاء الكاهن الأكبر سلامة المقرّبين، الذي بالكاد حصل على كِسرة الخبز والماء [في الأصل عبارة مأخوذة من أسفار العهد القديم مثل سفر إشعياء ٢٠:٣٠،فيعطيك خبزًا في الضيق وماءً في الشدّة؛ وأنظر سفر الملوك الأوّل ٢٢: ٢٧، أخبار الأيّام الثاني ١٨: ٢٦. لا أدري فيما إذا كان الكاهن الأكبر عبد المعين، قد استخدم هذه العبارة التي لا ذكر لها في توراته، أم شيئًا آخر بالعربية، ونقله هكذا بنياميم صدقة. على كلّ حال، من المعروف أن السامريين كانوا على علم بأسفار الأنبياء والكتابات منذ القِدم لغرض النقاش والمماحكة مع اليهود الربّانيين]. الجدير بالذكر، أنّه عند تحسّن حالته المادية، كان يتبرّع بسخاء لشراءأغراضدينية لكنيس نابلس. جدّ جدّي، الكاهن الأكبر سلامة، رأى حياة إسحق الصعبة، فهبّ لمساعدته بأحسن وجه، قدر طاقته المحدودة. ذات يوم، بعد عيد من الأعياد، أتى الكاهن الأكبر سلامة إلى مسكن إسحق الدنفي، ووجده يصلّي صلاة المساء، يسجد سجدة لربّ إسرائيل، على سَجّادة صلاة صغيرة. انتظر الكاهن الأكبر سلامة، إلى أن انتهى إسحق من صلاته، تقدّم نحوه، انحنى ودسّ مبلغًا من النقود كان بيده، تحت السجّادة. قال الكاهن الأكبر لإسحق  خذ هديّتي من يدي، واعتبرها قَرضًا مع حقّ الرجوع على الضامن إذا عجز المقترض عن تسديده“. وضعتُ النقود تحت السجّادة، وكلّما احتجت لدفع ما، دُسّ يدك تحت سجّادة صلاتك، وخذ ما ترغب فيه، إلى أن تنفَد النقود. لكنّي عليّ أن أحذّرك، بأّلا يغريك رفع السجّادة وإحصاء مجموع النقود المعدنية التي تحتها.

 

شكر إسحق الدنفي الكاهنَ الأكبر على مساعدته، وأردف قائلًا: أعدك بأنّني سأفعل ما تقول. لن أعدّ النقود أبدًا، لكن عِدْني فقط، بأن تتكرّم وتُفصح عن المبلغ الذي دسسته تحت السجّادة، عند نفاده. قبِل الكاهن تلبية رغبة إسحق الدنفي. وفى إسحق بوعده للكاهن الأكبر، نجح بعد أن بذل مجهودًا نفسيًا كبيرًا لئلّا ينصاع لرغبته الجامحة في رؤية مقدار النقود المدسوسة تحت السجّادة. حافظ على كتمان ما فعله الكاهن الأكبر سلامة، وجعله سرًّا دفينا. كم كانت دهشة إسحق كبيرة، عندما لاحظ أنّه بالرغم من مدّ يده تحت السجّْادة والتقاط زلطة تركية أو اثنتين (مبلغ ذو قيمة شرائية كبيرة آنذاك) يوميًّا، بقي المبلغ ليس قليلًا، إذ تحسّسه إسحق من على ظهر السجّادة. ذهل من ذلك، إلا أنّه كما وعد، وفى بوعده للكاهن الأكبر سلامة.

 

تعجّب أفراد عائلة إسحق جدًّا، كيف توفّرت بيد الوالد فجأة، مبالغ من المال كافية  لسدّ كلّ احتياجات المنزل، وبوفرة غير يسيرة، إذ لا عمل في نابلس. توقّفت أعماله بسبب الإفلاس، لا رزق، وعليه فمن أين المال؟ إنعدام الإيمان والفضول هما آفتان، تجلبان المرض والمصائب للناس. وإسحق ابن أبي حنونة الدنفي  (إسحق لطفي) كان فضوليًا لمعرفة ما تحت السجّادة، وعلاوة على ذلك بدأ يحسب المبلغ المالي الكبير الذي التقطه من تحت السجّادة، وخشي ألّا يتمكّن أبدًا من تسديد قَرض الكاهن الأكبر. ها هو مبلغ المال قد تفاقم يومًا بعد يوم، وتوفّرت النقود المعدنية، زلاطة دون انقطاع تحت السجّادة [زلطة أو زلاطة، بولونية الأصل، عملة تركية مخلوطة رسميًّا، نحاس بداخله فضّة، قيمتها ٣٠ بارة، أنظر: محمد أحمد دهمان، معجم الألفاظ التاريخية في العصر المملوكي. بيروت: دار الفكر المعاصر، دمشق: دار الفكر،  ط. ١، ١٩٩٠، ص. ٨٧؛ الكتاب متوفّر على الشابكة].

 

في يوم من الأيّام، ذهب الكاهن الأكبر سلامة لزيارة إسحق لطفي، تردّد إسحق كثيرًا، هل يسأل الكاهن الأكبر عن المال، وفي آخر المطاف تمنطق بالشجاعة واستفسر: ”يا عمّي الكاهن سلامة، إنّك أعطيتني نقودًا معدنية دسستها ذات يوم تحت سجّادة صلاتي. ما زلت حتّى اليوم فضوليًّا لمعرفة عدد الزلاطات التي وضعتها هناك. لقد وفيت بوعدي لك بألّا أرفع السجّادة لأحصيها. ها قد مرّت أيّام كثيرة، منذ ذلك الوقت، ولمّا ينفد المال،  كيف يمكن ذلك أن يكون؟

 

لا تُثر الحظّ، حذّر الكاهن الأكبر سلامةُ  إسحق لطفي، ومع ذلك ּأصرّ إسحق لطفي قائلًا: حبّ الاستطلاع ينهشني. ابتسم الكاهن الأكبر سلامة وقال: دع الحظّ يأخذ مجراه، لا تستفزّه! طالما أنّك تمدّ يدك تحت السجّادة وتجد كلّ حاجتك، فلماذا هذا الأمر يجب أن يزعجك؟ لم يُصغ إسحق لطفي لصوت العقل، عاد وألحّ على الكاهن الأكبر أن يُفصح عن المبلغ، الذي دسّه في ذلك اليوم تحت السجّادة. حينما تيقّن الكاهن الأكبر سلامة، أنّه لا مفرّ قال لإسحق: كلّ ما أعطيته لك هو مبلغ سبع زلاطات، والآن إرفع السجّادة ورَ كم تبقّى لك منها؟ ּأمام أعين أفراد أسرته الفضوليين جدًّا، تقدّم إسحق لطفي ورفع السجّادة، تفاجأ الجميع، كانت تحت السجّادة سبع زلاطات، السبع عملات المعدنية الأصلية، التي وضعها هناك الكاهن الأكبر سلامة.

 

خطا الكاهن الأكبر سلامة، التقط بيده النقود، وكأنّه يروزها قليلًا، ثمّ دسّها في جيب إسحق لطفي. وقال: ها قد أخرجت من تحت السجّادة، في خلال أيّام كثيرة، لتلبية حاجياتك وحاجيات كل أفراد عائلتك، مع كلّ هذا ما نقصت النقود.

لا ريب أن يد الله في الأمر. والآن استفززت الحظّ ولم تقو على التغلّب على فضولك.

 

النتيجة: كلّ ما بقي لك لنفقات بيتك هي سبع زلاطات!“

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق