الثلاثاء، 19 يناير 2016

ديوان "آدم" وصوت شعريّ أردنيّ يعانق الغمام



  بقلم د: سناء الشعلان/ الجامعة الأردنية/ الأردن.

selenapollo@hotmail.com
 

     من يريد أن يدخل إلى نصوص " آدم" عليه أن يدخل إليها من ترنيمة الشّاعر التي يسجّلها في مطلع عمله،ويجعل منها  دفق روحه إذ يقول:"

    لستُ معاتباً لمن شعري قد انتسب                     من فقد الحياء لا يجدي فيه التعب

  فعبر هذا البيت نمتح من روح الشّاعر عبد الله الزعبي ،وهي روح أبيّة بامتياز،وهي ذات مبدعة تصنع من الكلمة أداة للرّفض،وتجعل من القلم آلة للثّورة والغضب والتمرّد على شتّى أشكال الاستلاب والقمع الظّلم والجور،وهذه الرّوح هي من تستنهض الهموم الأبيّة لأجل استيلاد فجر يحمل الحريّة والعدل والأمل،وهو يعلّق الآمال على الثّائرين الأباة في كلّ مكان وعصر،وهو في الوقت ذاته يجلد واقعاً وموقفاً وبشراً يتعاطون مع الذّل باستكانة،ويقبلون الاستلاب،وينداحون في صمت الذّل دون حراك أو احتجاج أو رفض.

   عبد الله الزعبي في هذا الديوان يعلن بصرخة جريئة أنّ الواقع العربيّ هو واقع مخزٍ لا يمكن وصفه إلاّ بالمسخرة،ولذلك يدعو إلى التنكّر له،ونبذه،والثّورة عليه:" ما نحن فيه مسخرة،أتدرون من عنترة،كان يستلّ الحسام لمن اعتدى ليقبره".هذا الدّيوان هو صرخة الإباء المخنوق بأيدي الظلمة والمستلبين وأصحاب البطش والسّلطة.

  وفي الوقت ذاته لا يملك إلاّ أن يسلم نفسه -وسط أحزانه- لقلبه العاشق الذي يجد من دقاته ووجيبه سبباً للحياة،وكأنّه عبر هذا الشّعور النّبيل يجد للبشرية مساحة للحياة والفرح والأمن عبر الاستسلام لنداء القلب والعشق،فيترنّم قائلاً:

                       " الله أكبر... الله أكبر     على كلّ من أحبّ وأنكر"

   وهذا العشق الذي يسكنه هو أكبر من رجل وامرأة،بل يمتدّ ويكبر ليصبح عنده قضيّة وطن وإنسان وعدالة وإخلاص للذكريات البريئة السّعيدة والماضي والتّفاصيل الجميلة.

    والانطلاق من الإنسان للوصول إليه هي أجمل مميزات هذا العمل الإبداعيّ؛فهناك وقفة فلسفيّة جدليّة أمام التّجربة الإنسانيّة بكلّ ما فيها من إشكالات وصراعات وأولويات،وهذه الوقفة تنطلق من ذات المبدع لتصبّ في التّجربة الإنسانيّة الجمعيّة لتضعنا وجهاً لوجه أمام أسئلة الوجود والخير والشّر والخلود والصّراع،ولنا عندها أن نختار مآلات أفكارنا وأرائنا وتوقعاتنا لمصير الإنسانيّة وفق خياراتها الكبرى.

  ولنا أن نقول أنّ هذا العمل يستثمر التّاريخ والحضارة والمنجز والإرث العربيّ ليصنع منه قارباً للنّجاة والحياة لمن أراد أن يختار الحياة،ويرفض الموت في مستنقع الذّل والفشل والهصر ،بل إنّه يستولد التّجربة الإنسانيّة الذاتيّة للشاعر كي يرسم ملامح للواقع والإنسان من خلال مفردات ذاكرته وشخوص حياته أمثال أمّه ووالده وجدّه ورموز البطولة الماضيّة والحاضرة في وجدانه وفي وجدان أمّته.

   هذا العمل الإبداعيّ هو باختصار حالة جماليّة خاصّة تصنع الثّورة والتمرّد على السّائد المهين،وتكسر أفق الصّمت والذّل،وتملك حساسيّة خاصّة تجاه الزّمن والفعل والتّاريخ والموقف بل والإنسان ذاته،هو حالة شعوريّة وجماليّة وفكريّة تجاه الذّات والآخر والواقع والمأمول والإكراهات والأمنيات،هو تجسيد للواقع الكريه المزري،وفضح لمعايبه وزلاته وسقوطه،وهو مطالبة قويّة بحياة كريمة وسط غابة من الإذل والإكراه والقهر والتعسّف والظّلم،هو تجسيد جميل لكلمة "لا " بكلّ ما فيها من جمال الرّفض ومشروعيّة الحلم.

      لقد أختار عبد الله الزعبي اسم "آدم" لعمله هذا كي يجعله وثيقة إنسانيّة جدليّة تتسع للرؤى جميعها،وتخصّ الإنسان على العموم بقدر ما هي منطلقة من تجارب مخصوصة ومواقف محدّدة وقضايا وطنيّة وإنسانيّة محدّدة؛ فآدم ليس هو الإنسان الأوّل فقط ،بل هو الإنسان في كلّ زمان ومكان بكلّ تناقضاته وقبحه وجماله وضعفه وقوّته،هو عبد الله الزّعبي ذاته عندما يسجّل الإنسان من ذاته،وينطلق منه ليرفض الإنسان المشوّه بالخطيئة والظّلم والقسوة،ويترك الباب مشرعاً أمامه علّه يتوب لخالقه إن أخلص النيّة،واختار درب النّجاة والفلاح.

   أستطيع أن أزعم أنّ هذا العمل الشّعريّ النثريّ لمبدعه هو حالة إبداعيّة ناضجة ترتقي عن هفوات المبتدئ،وتتجاوز بمراحل الخطوات الأولى للمبدع،لتأخذنا نحو تجربة ناضجة لمبدع يبدو أنّه قرّر أن لا يسمح لعمله أن يعلن عن ولادته وحياته إلاّ إن جاء إلى الحياة ناضجاً قويّاً متعاظماً على الضّعف ومتاهات التّجربة الأولى وأخطاء المبتدئين.نحن الآن أمام مبدع متميّز يقول لنا:هاأنذا،فهل ترونني؟

  هذه دعوة كي نرى عبد الله الزعبي المبدع الأنيق اللّغة والحضور والفكر والفلسفة والطّرح،ولنا أن نعبّ من ذاته المفعمة بالحياة والإباء لننطلق في رحلة مقدّسة في أنفسنا لننصفها من الجور والغبن والقمع،فعبد الله الزّعبي يجيد أن يصنع من الشّمس طوقاً من الفلّ يعشق كلمة :لا.

    لنا أن نقرأ على أنفسنا ترنيمة الحياة الحرّة الكريمة التي تنقذنا من لعنة الوجود الإنسانيّ التي تجعل الحياة امتداداً للبشريّة من ظهر القاتل الظّالم لا من المقتول المظلوم،وتقول:"

   "أنا خلقت نصفاً

   ثم خُلق من نصفي نصفاً

  وإذا بنصفي ينكح  نصفه

  فولد النصّف الذي قتل النصف"



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق