السبت، 9 يناير 2016

والذي يعرف روشكا...


قصة قصيرة


بقلم : ميسون أسدي

 

1

 

ذات يوم أو آخر، حدثتني صديقتي نهلة التي تعيش في مونتريال عن حبيبتها روشكا، فانبهرت مما سمعت منها، وتمعنت بحديث لسانها، وبلغة جسدها وهي تسرد لي حكاية روشكا وهي خالية البال، ثم تممتها بانفجار موجة بكاء كعاصفة هوجاء..

 

2

 

سميت روشكا بهذا الاسم تيمنا بابنة نهلة البكر واسمها لارا ويدلعونها "لاروشكا"، فعندما قررت لارا السفر إلى خارج البلاد طلبًا للتعليم العالي، قررت لارا وأمها والابنة الصغرى تاليا تبني الأمورة الصغيرة روشكا، وتمت اجراءات التبني باليسر وفتح باب الرزق على العائلة منذ أن وطئت قدم روشكا بيت نهلة وعائلتها.

 

أصبحت روشكا مدللة العائلة، صدر البيت لها- كما يقولون. نامت بين نهلة وزوجها في سريرهما الزوجي، وأحيانا في سرير ابنتها الصغيرة تاليا، وعندما تلتقي العائلة حول طاولة الطعام، تبدأ روشكا بتناول الطعام قبل افراد العائلة. تتمجلس بقرب زوج نهلة الذي عشقها أكثر من ابنائه الحقيقيين، رغم أنه كان من المعارضين على تبنيها في بادئ الأمر.

 

تتمختر روشكا في مشيتها فتسرق الالباب، رشيقة مدللة وجميلة جدا.. شعرها الجميل يتطاير ويهفهف برائحته الطيبة. اشترت لها نهلة اطيب العطور وازكاها، مع انها ما زالت صغيرة العمر، غطت كتفيها ورقبتها بياقة دانتيلا حريرية، واصطحبتها اسبوعيًا إلى مصفف الشعر، فزين شعرها ورتبه بعناية بالغة. اهتمت نهلة بتلبيسها الحلق وبُكل الشعر الملونة على شعرها الحرير.

 

3

 

أحيانا، تتشاقى تاليا فتقول قصدا لأختها لارا وعلى الملأ بأن روشكا متبناة، فصلّبت نهلة وبفشخة واحدة ركضت.. كأن احدا شدها من شعرها، غطت اذني روشكا بكفتي يديها، حتى لا تسمع هذا الكلام المسيء لها من ابنتيها، ووبختهما على تلفظهما، حتى لا تعتقد او تفكر روشكا بانها غريبة عن العائلة، كم لامت الأم ابنتها وأغاظها سفههما، لانهما جرحتا مشاعر روشكا الجميلة.

 

4

 

يا لبهاء وذكاء روشكا! عاشت سنوات طويلة في حضن العائلة الدافئة ووهبتهم السعادة بطهرتها الشرسة. عندما كانت نهلة تسافر لبضعة أيام أو حتى إذا كانت مشغولة كانت تترك صغيرتها روشكا في بيت اختها وفاء، ولم تأتمن عليها أحدًا آخر عدا اختها، مع ان روشكا لم تحب وفاء، وتغضب عندما تصطحبها نهلة لزيارة اختها وفاء، لأن وفاء لا تحب تدليل احد، وكانت حازمة مع روشكا، ولا تسمح لها بالتصرف على خاطرها، فتتقيد روشكا في حركتها، خاصّة أنها لم تسمح لها بالجلوس أو اللعب في الصالون، مما يجعل روشكا تدور حول نفسها في توسل فلها الحق بالشكوى والنطنطة، مع ان وفاء احبت روشكا وتنزهت معها بنزهات ليلية عديدة.

 

5

 

في أحد الأيام العاصفة، خرجت نهلة مع ابنتها لارا واختها وفاء للإفطار معا في احد المجمعات التجارية في مونتريال في كندا. فالمكان فرح رغم ان الطقس كان عاصفا، حيث اجتاحت العاصفة "باتريشيا" اوروبا وقد وصل طرفها وضربت كندا، وبينما كانت الفتيات يتمتعن بإفطار الصباح، إذا بالخبر السيئ يصل بسرعة إلى مسامع نهلة من ابنتها التي همهمت بصوت حاد، روشكا مريضة جدًا، تعاني من اضطرابات صحية.

 

• ماذا حدث؟

 

• أغمي عليها.

 

• ربما اوجاع في المعدة؟

 

• لا، لقد اغمي عليها وانقطع نفسها واجريت لها عملية تنفس اصطناعي..

 

حاولت نهلة طمأنة ابنتها تاليا، التي صرخت بأعلى صوتها، فهي وحدها في البيت مع روشكا. وضعت تاليا فمها على فم روشكا واعطتها تنفسًا اصطناعيًا ثانية، فعادت روشكا للحياة من جديد. خمس مرّات أجرت تاليا لروشكا التنفس الاصطناعي حتى وصلوا إلى قسم الطوارئ في احد المستشفيات المعروفة في مونتريال. لفت تاليا كتفي روشكا بذراعيها. كانت روشكا مبتسمة وعيناها مغمضتان نصف إغماضة. سبقت نهلة ابنتها وروشكا، فوصلت قبلهما إلى المستشفى. لم يخفِ الاطباء عن نهلة بأن وضعها صعب، غير مستقر وفي تدهور، ويمكنهم اجراء عملية جراحية لروشكا ولكنها ستموت خلال العملية، ولا حاجة لذلك. قبّلت نهلة عيني روشكا، أدركت للتو، بأن روشكا ماضية في سبيلها ووافقت الاطباء برأيهم، خاصة انها في مستشفى خاص وثمن معالجته باهظ جدًا، وهم اختاروا مصلحة روشكا وليس المال. لفظت روشكا أنفاسها الأخيرة والجميع ينظر إليها بعيون دامعة.

 

6

 

توفيت روشكا وهي ابنة اربعة عشر عاما في حضن نهلة التي احتضنتها بكلتا يديها، والدموع تنهمر من عينيها. ركض الاطباء لإسعاف تاليا التي اغمي عليها كالأوراق الميتة التي طارت في حفيف خفيف وسقطت ارضا. لفظت روشكا المدللة الجميلة انفاسها بين افراد العائلة، وهم ينوحون ويبكون حولها مما ابكى بعض الاطباء والممرضات لمأساة العائلة.

 

دفعت نهلة مبلغا كبيرا من المال للمستشفى مقابل ان تحرق جثة روشكا ويوضع رمادها في صندوق من خشب الأرز، محبة لبيروت التي جاءوا منها إلى مونتريال.

 

حالة من الحزن والغضب الشديد خيم على العائلة لفراق روشكا. مضى اسبوعان محاولين تدفئة احلامهم الحزينة. لم تستطع نهلة وزوجها أو أي من ابنائها الذهاب إلى العمل، فقلوبهم تخفق ألما وعيونهم مُفنجرة حمراء من شدة البكاء حزنًا على فراق الغالية.

 

***

 

سأكون صريحة معكم اكثر مما ينبغي، دون ونىً وبلا حذر؟

 

فالرحمة لك يا روشكا، واسكنك الله فسيح جناته، وأنزل على مثواك الطاهر شآبيب الرحمة والسلام، ولذويك من بعدك طول البقاء!! لم انفك من الاستغراب على هذا الوفاء الجميل لروشكا، ولكنني لا اخفي عليكم شعوري الذي اخفيته على صديقتي نهلة، ولم اتضامن مع حزنها من صميم قلبي، بت كغيمة حبلى بالمطر، اليس من الأفضل لها تبني طفل سوري أو فلسطيني، أو افريقي، أو اي من بني البشر، فهناك ملايين الاطفال يموتون جوعا في هذا العالم البائس المنحط بدلا من الكلبة روشكا....ولكن الناس اجناس.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق