الاثنين، 12 أغسطس 2019

تواريخ المستشرقين بقلم : أ.د. محمد الدعمي


للمتتبع أن يلاحظ أن عملية بناء الامبراطوريات الأوروبية انطوت في الوقت ذاته على عملية موازية بتفكيك الأقاليم المرشحة للضم، كمستعمرات، لغرض تيسير ابتلاعها ثم فرض الهيمنة عليها. وقد شملت “عملية التفكيك” أنشطة عدة أخرى، منها تأجيج وتغذية الفروقات الطائفية والإثنية وتهميش العلوم والمعارف الشرقية، والإقلال من شأن اللغات القومية والمحلية ونسف جميع أعمدة الثقافة الوطنية أو القومية.
وقد ادى حقل الدراسات التاريخية في أوروبا دوراً لا يُستهان به في هذا المضمار. في هذا الجانب، لم يكن الأمر ليتحدد بعمليات تسفيه التاريخ المحلي للأمم وإبراز مثالبه والسالب منه على حساب الإيجابي والبنّاء. كما تمثل هذا الإتجاه، من ناحية ثانية، في عملية فك رموز تراث وتواريخ الأقاليم المرشحة للضم أو المرشحة “لإعادة التورخة” ثم للضم، عبر ضم التواريخ المحلية لهذه الأقاليم إلى تاريخ الإمبراطوريات الغربية الذي عُدّ ذروة تاريخ البشرية، ومنها تواريخ أمم الأرض مجتمعة.
لذا، فقد منحت الرؤية الإمبراطورية النخبة المثقفة هناك شعوراً قوياً أن جميع تواريخ الأقوام خارج أوروبا لا تمثل سوى روافد صغيرة تصب في التيار الرئيس لحركة التاريخ الكوني الذي تتجلى ذروته في حضارة الإمبراطوريات الأوروبية، بدليل أنه بينما كان سيلي يطور رؤية “دولة عالمية” في كتابه “توسع إنكلترا” من خلال التكهن بنشوء حركة لا واعية في تاريخ إنكلترا والعالم تفضي إلى “بريطانيا الأعظم”، فإن مفكرين آخرين تعاملوا مع تواريخ الأمم الشرقية بحرية عابثة متمادية وكأنه جزء من ممتلكات الغرب.
من الطريف أن نذكر هنا أن بعض الكتّاب ساورهم الاعتقاد بأنهم، حين “يفككون” بعض غوامض التاريخ العربي الإسلامي، إنما يحققون فهماً جديداً “مستنيراً” لهذا التاريخ، ليس فقط نيابة عن العرب أو المسلمين أنفسهم، بل كذلك للتصحيح لهم، لأنهم قد أخفقوا في كنه دروس ماضيهم. وهذا ما يفسر نقد بعضهم للشرقيين بعامة باعتبارهم أقواماً لا تمتلك إحساساً بالتاريخ، وهي لذلك اقوام ليس لها شعور بالهوية الثقافية والقومية.
لقد دأب هذا النفر من المستشرقين على إشاعة الاعتقاد الخاطئ الذي يفيد بأن لولا مناهج وأدوات البحث التاريخي الأوروبية، لما تمكن الشرقيون من إدراك دلالات تواريخهم. ويتجلى هذا النمط من الخيلاء المتعالي على نحو صريح لدى الراحل برنارد لويس الذي ذكر ان الغربيين هم وحدهم المسؤولون عن “منح” الأقوام الشرقية إحساساً بالتاريخ، ولذلك، بالهوية القومية، وهو على حد زعمه شعور كان غائباً قبل ذهاب البريطانيين إلى الهند، على سبيل المثال، في كتابه المهم “التاريخ: مُستذكراً، مُستعاداً، مُكتشفاً” يقول لويس ما نصه:” فقط أوروبا كانت تمثل نوعاً من الهوية التاريخية الحقة…فالتأثير الأوربي والقوة الأوروبية، وأخيراً، البحث العلمي الأوربي، هي العوامل التي أقنعت سكان آسيا وأفريقيا بأنهم آسيويون وأفارقة”.
يجد هذا الموقف الخطير جذوره في النظرة الدونية التي خص بها المستشرقون التواريخ التي كُتبت بأقلام الشرقيين أنفسهم، بوصفها تواريخ غير علمية تتبنى الأسطورة والخرافة بدلاً عن الحيادية الموضوعية. وهذا بدقة ما قصده اللورد ماكولي، في القرن التاسع عشر، عندما كان يناقش مع زملائه في إدارة الهند الإمبراطورية عملية طبع المؤلفات التراثية العربية والسنسكريتية، اذ ادعى بأن التواريخ التي خُطّت بهذه اللغات لا تساوي من حيث القيمة العلمية حتى ثمن الورق الذي تطبع عليه، مشيراً إلى أن علوم الشرقيين بعامة تركبها الخرافة والغيبيات:” فتاريخهم يزدحم بملوك يجاوزون الثلاثين قدماً طولاً، وعهود حكم تتجاوز الثلاثة آلاف عام”. لاحظ المبالغة.
لقد طرحت انتقائية مستشرقي العصر الذهبي للاستعمار الأوروبي ذات الموقف والجو المفعم بالشعور بالتفوق والميل للعبث بما هو لغيرهم.
صحيح أن التاريخ العربي الإسلامي ليس حكراً على المفكر العربي أو المؤرخ المسلم، لكن التمتع بحرية الاستلال، بغض النظر عن الشمولية وعن اكتمالية النص التاريخي وسياقه السببي، هي علة الاختلال والإخلال. لهذا السبب ظهرت بعض مستلاتهم للأحداث أو للشواخص التاريخية العربية أو المسلمة، وهي مشوهة لأنها بدت وكأنها لا تمت بصلة عضوية للسياق التاريخي الأصل.

كما أن هذه الكيفية الانتخابية آلت إلى إهمال القوانين التاريخية، فتحول الحدث المنتخب إلى شيء اشبه ما يكون “بحكاية”، نصف أسطورية ونصف واقعية، حكاية يمكن تحليلها على النحو المطلوب وفق الأهواء، وعليه يمكن تقديم كل واحدة من هذه “الحكايات” للقارئ الغربي على أساس احتوائها على بعض الشذرات النادرة والطرائف الغريبة والحكم المأثورة، بغض النظر عن جدل وآليات التطور التاريخي المتواصل.
وباستثناء تتبع واشنطن ارفنغ، والكاردينال نيومن لقانون “الولادة-الذروة- الإضمحلال” في بعض أجزاء التاريخ العربي، فإن غالبية الغربيين المهتمين بهذا التاريخ عمدوا إلى التغاضي عن أنماط التطور المعتمدة في الدراسات التاريخية، لذا ظهر هذا التعامل منقوصاً: فأما أن يكون الإستلال فردي البؤرة أو حدثي التمحور.
غالباً، يصادف المرء هذا الكاتب أو ذاك المؤرخ وقد انتقى شخصية عربية، أو حادثة تاريخية إسلامية، أو قولاً مأثوراً محلياً ليقدمه كبؤرة لاهتمامه في سياق جدل عام، أو مناقشة قضية غربية محلية ساخنة.
هنا لا يفلت القارئ المتمعن من تطوير انطباعين لا ثالث لهما: الانطباع الأول هو أن هذا الكاتب يرتكن إلى معرفة واسعة تتجاوز حدود ثقافته المحلية، بينما ينطوي الانطباع الثاني على الشعور بأن هذا التاريخ الأجنبي إنما يخلو مما يستحق الاسترجاع أو الاستحضار، باستثناء تلك الشخصية، أو ذلك الحدث الذي اختاره الكاتب “العارف” لقارئ من عالم متفوق ومختلف.
ينطبق هذا الأمر على كتاب توماس كارلايل”الأبطال”، فبينما يتجسد أبطال كارلايل كأعظم رجال التاريخ في أبطال أوروبيين، نلاحظ وجود بطل واحد فقط من الشرق، بطل مستزرع في هذا المشهد التاريخي الأوروبي الملحمي الذي تطغى عليه الصفة الآرية. هنا لا يجد القارئ الغربي مهرباً من الشعور بأن، في حين أن أوروبا كانت قادرة على تقديم أحد عشر بطلاً يستحقون عناية مؤرخ البطولة، لم يكن الشرق برمته قادراً إلاّ على تقديم رجل واحد يستحق المثول في “معرض” كارلايل للبطولة، وهو الرسول الكريم محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وسلم).
كما تتكرر هذه الحال في زحمة إشارات الكاتب الأميركي رالف والدو إمرسون، ذلك أنه ينتخب مقولات لأبطال عرب بوصفها ومضات من الحكمة الشرقية أو العربية القديمة، لكنه لا ينسى قط تذكير القارئ الأميركي، من آن لآخر، باعتزازه المعروف بالإرث “الرجولي للغرب”، ومرة ثانية، يكون الانطباع المتبقي للقارئ هو خلو التراث العربي مما يستحق الذكر، باستثناء ما ينتخبه المؤلف الأميركي أو الأوروبي له من شخصيات أو أقوال مأثورة.
وفي إطار فكرة إمرسون بأن المجتمع العربي الإسلامي يفتقر إلى المؤسسات المستقرة وإلى الشعور بالأمن والأمان، فإن عملية إبراز غياب التيقن والاستقرار في الحياة والشخصية العربية الإسلامية تبدو شيئاً لا مفر منه، كما أنها تغدو سبباً كافياً لتبرير خلو هذه الحضارة من العبقريات، لأن هذه العبقريات لا يمكن أن تنمو وتزهر في إناء اجتماعي خال من الأمن، ولذا قاد هذا التحجيم والتشكيك، “بقدرة المجتمع العربي على إنبات ورعاية العبقريات”، إلى التوكيد الغربي المبالغ به على شخصيات منفردة معدودة على سبيل عرضها أمام القارئ الغربي، لكن في أطر نصف خرافية بوصفها “قدحات” نادرة من كينونة تاريخية أثرية، لا تستحق إلاّ أن تُحفظ في المتاحف.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق