“.. وللتعرف على نزعة آرنولد العنصرية أعلاه، نلاحظ أن فرضية آرنولد الأساس إنما تقوم على التمييز بين جميع الأشياء على الأساس العنصري أعلاه: فهو يميز بين تيارين فكريين شكلا تاريخ الثقافة عبر العالم، وهما التيار الآري، والتيار السامي، مدعيا أن الأقوام الآرية أكثر ميلا للدقة وللعلوم التطبيقية كالرياضيات والكيمياء والفيزياء..
في مقالتي السابقة ليوم الخميس، “ذوو الدم الحار معاكسا لذوي الدم البارد”، حاولت أن أميز بين الفرنسيين والإنجليز (أمزجتهم وأنماط سلوكهم الجماعي) تأسيسا على آثار البيئة على الشخصية البريطانية الشمالية (الباردة)، من ناحية، وبين آثارها على الشخصية الفرنسية الأكثر سخونة بسبب موقعها جنوبا، مطلة على البحر المتوسط.
للمرء أن يسلم بأن هذه هي نظرية عنصرية قديمة ابتدعت عبر القرون الماضية، خصوصا مع صعود نجم الروح العنصرية “الآرية” على أيدي مفكرين من نمط الكونت جوبينو Gobineaue والفيلسوف Renan في أوروبا.
وإذا كانت هذه النظرية قد تتوجبت بصعود الرايخ الثالث في برلين وبظهور النظرية النازية وعسكرة ألمانيا على أيدي هتلر، فإن على المرء تفحصها بقدر تطبيقاتها علينا في العالم العربي الإسلامي، تجاوزا لاختلالاتها وحذرا من مؤدياتها الخطيرة.
والحق، فإن تخصصي في أدبيات الاستشراق أكاديميا، قد فتح لي الأبواب واسعة لقراءة نصوص مهمة في هذا الحقل.
ربما كان أهم هذه النصوص هو مقالة المفكر الإنجليزي الفذ “ماثيو آرنولد” Arnold الموسومة “مسرحية العواطف الفارسية”، A Persian Passion Play. هذه مقالة عملاقة حجما ونوعا، إذ يحاول آرنولد من خلالها البرهنة على تفوق الجنس الآري، الذي ينتمي هو إليه كإنسان أوروبي أشقر، مقارنة بالجنس السامي، أي العربي واليهودي بخاصة.
وللتعرف على نزعة آرنولد العنصرية أعلاه، نلاحظ أن فرضية آرنولد الأساس إنما تقوم على التمييز بين جميع الأشياء على الأساس العنصري أعلاه: فهو يميز بين تيارين فكريين شكلا تاريخ الثقافة عبر العالم، وهما التيار الآري، والتيار السامي، مدعيا أن الأقوام الآرية أكثر ميلا للدقة وللعلوم التطبيقية كالرياضيات والكيمياء والفيزياء، من بين سواها؛ بينما تميزت الأقوام السامية (ومنها العرب والعبريون) بأنها أكثر ميلا للغيبيات وللخياليات، الأمر الذي يفسر ظهور الأديان المعروفة بــ”التقليد التوحيدي اليهودي/المسيحي/الإسلامي” بين الأقوام السامية، خصوصا في المشرق العربي. لذا، قرر آرنولد أن يترجم هذا المنطق بالرموز: إذ إنه رمز للتيار العقلاني (الآري) الأول بمدينة “أثينا”، فصارت برأيه منبع الثقافة العقلية المنطقية التي تميزت بها أوروبا عن سواها من بقاع الأرض؛ أما الرمز الثاني الخاص بالذهنية الخيالية الغيبية الذي خص به آرنولد الأقوام السامية، فهو مدينة “القدس”. وهكذا، تصور آرنولد تاريخ الفكر العالمي وهو يدور فقط في مداري المدينتين أعلاه.
هذا، بطبيعة الحال، نزوع عنصري واضح المعالم قصد منه التشويه والإساءة، خصوصا عندما راح هذا الكاتب يطبقه على ظهور الإسلام بين العرب، بوصفه دين، “سامي”؛ إلا أنه ما لبث وأن ادعى أن هذا الدين الحنيف قد تعرض للتحوير والتلاعب حال عبوره صحارى العرب نحو أراضي الأقوام الآرية. ومعنى ذلك، هو أنه كان يؤمن بقوة تأثير العنصر الذي تنتمي إليه هذه الأقوام حتى على طريقة فهمهم وتطبيقهم لشرائع دين واحد، غير قابل للتقسيم. وهذه، بكل تأكيد، محاولة لحرف حقيقة الإسلام الواحدة غير القابلة للتحوير ولا للتلاعب بسبب ضبطها بكتاب مقدس وبتقليد حديث شريف لا يمكن لأحد أن يتلاعب بهما، بدليل قوله تعالى: “إنا نحن نزلنا الذكر، وإنا له لحافظون”. صدق الله العظيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق