الجمعة، 25 ديسمبر 2015

الدراسات المقارنة: آفاقها وكبواتها وفضائلها بقلم البروفيسور محمد الدعمي


 
أ.د. محمد الدعمي
لم يعد هناك جانب من جوانب حياة النوع الآدمي لم تدكه سنابك خيول فرسان الدراسات المقارنة الحديثة: من مواضيع تقبع على جوهر حياة الإنسان كالأديان واللغات، إلى مواضيع لا تبدو بذات الأهمية في أعين الكثير من المتابعين، كوسائل وأدوات الطهي وألعاب الأطفال الشعبية، علمًا بأن الجامعات العالمية الكبرى تولي الدراسات المقارنة عامة اهتمامًا خاصًّا، نظرًا ما لأهمية معطياتها ودلالاتها. وهذا، بالضبط، ما ينبغي أن تفعله الجامعات والمراكز العلمية في عالمنا العربي كذلك، بطبيعة الحال.
وتأسيسًا على خبرة فردية جاوزت الربع قرن في العمل الأكاديمي، أرى ثمة تبسيطا وتسطيحا واضحي المعالم في مؤسساتنا الأكاديمية عبر العالم العربي حيال مباشرة الدراسات المقارنة، نظرًا لخفض هذا النوع من الدراسات المهمة للغاية اليوم إلى مجرد محاولات رصد وتتبع وتحليل الموازيات والمطابقات التي قد يظفر بها الأستاذ الجامعي، أو أحد تلاميذه في الدراسات العليا، كي يباشر دراسة مقارنة، كما فعل كاتب الأسطر عندما حاول المقارنة بين قصائد للشعراء الإنجليز “شيلي” Shelly و”تينيسون” Tennyson و”روزتي” Rossetti، من ناحية، وبين قصيدة “قارئة الفنجان” لنزار قباني في بداية أعماله المنشورة مطلع ثمانينيات القرن المنصرم.
كانت تلك محاولة طريفة للمقارنة بقدر تعلق الأمر بفكرتها المركزية، وهي “صورة المرأة المباركة” Image of the Blessed Damozel السرابية التي يعيي التطلع إليها والتشبث بها الشاعر الرومانسي، درجة حدوث الأوجاع والإسقاطات والشعور باللاجدوى، بحثًا عن حب غير قابل للبلوغ قط. لقد كانت تلك محاولة موفقة نسبيًّا، إلا أنها لم تتخطَّ كذلك حدود ما تفعله مجالس أقسام اللغة العربية وأقسام اللغات الأجنبية في جامعاتنا العربية، أي مهمة إلقاء الضوء على نقاط التشابه في النتاجات الثقافية والأدبية، زيادة على محاولة إحالة التشابهات إلى قضية “هذا لي، وذاك لك”، خاصة عندما يكون رئيس القسم أو رئيس لجنة الدراسات العليا من النوع الذي يميل إلى إحالة كل منجزات العلم والآداب والفنون إلى أهله، عربًا كانوا أم عجمًا، بدوافع شوفينية يراد لها تفضيل الذات المتضخمة على ذوات الآخرين، درجة الإعلان بأن كل العلوم والفنون والآداب في العالم تدين بأصولها إلى بغداد أو القاهرة أو دمشق! وهذا ما يوقظ عواطف التحامل والخيلاء والعداء، ثم إلى الضغائن والعصبيات، كما فعلت قبائل العرب قبل وبعد الإسلام حين استفزت العصبيات القبلية.
بيد أن للمرء أن يلاحظ بأن اعتماد هذا الخط الضحل في التفكير لا يخدم غرضًا علميًّا أو ثقافيًّا حقًّا، لأن الأغراض النهائية للدراسات المقارنة، مهما تنوعت حقولها وموضوعاتها، ليس التفريق ولا التمييز، بل هي التوحيد والجمع والتساوي، بعيدًا عن “النرجسيات” القومية أو الفئوية أو القبلية أو الدينية، من بين سواها. إن فضائل الدراسات المقارنة أكثر وأهم بكثير من النوع أعلاه من الأغراض الأنانية. هي تساعد العقل البشري على إدراك الأصول المشتركة لمعظم المنجزات الحضارية والثقافية بين الأمم: فما الضير من الإعلان بأن الأرقام وعلوم الحساب والرياضيات بدأت بالهند، وليس باليمن؛ وان أول من استعمل الورق للكتابة وللرسم هم الصينيون وليس سواهم من القدماء. إن صرح الحضارية الإنسانية يكون عظيمًا عندما ندرك بأن لا فضل لأحد على أحد في إقامته وبنائه لأنه خلاصة جميع جهود البشرية منذ البداية حتى اللحظة، وهي سُنة الأزل.
هذا المدخل الكوني إلى الدراسات المقارنة هو الذي يضمن تحرير خلاصاتها من العصبيات، لتكون هذه الخلاصات من عوامل الدمج والجمع، بدلًا من أن تكون من عوامل الشرذمة والإنقسام، الصراع والتسابق.
وعلى العلماء والخبراء العاملين في “آبل” أو في “ناسا” أن يتذكروا أن ما توصلوا إليه من تقدم وتعقيد علمي شائك لم يكن من نتاج جيلهم الذي لم يتجاوز عمر إنجازاته العقود القلائل، بل كان من نتاج كدح وعمل وتفكير سلالات وأجيال عديدة قد لا تتمكن الأرقام الحسابية من تمثيلها والإلمام بها. الحضارة الإنسانية بدأت قبل دهور وحقب كثيرة، ولم تنتهِ إلى حيث تركها “آينشتاين” و”ستيف جوب”، لأنها تيار جارٍ لا يتوقف عند حد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق