السبت، 14 ديسمبر 2019

بين الكتابة الأصيلة وامتلاك رؤية للعالم... بقلم : محمد آيت علو


وقفة قادتني للبحث:

             لا أحد ينكر بأن النقد اليوم جعل من مفهوم الإبداع ورشا معرفيا وجماليا للتحديد والتحليل والتفسير والتأويل...كما أن هناك نقدا كبيرا مواكبا للأعمال الإبداعية، ولاسيما جنس الرواية في وطننا العربي، وذلك بحكم المسابقات والجوائز المتعددة والمغرية اليوم، وكذا انصراف أغلب الأقلام إلى هذا الجنس الإبداعي بالتحديد، المتميز والشديد التعقيد مثلما الواقع، والقريب من حياة الناس، وبالتالي ظهور مواهب وأسماء عديدة ومهمة جدا اليوم في الساحة، وبزوغ أسماء جديدة على الرغم من كونها تبدو غير معروفة، والتي أخذت تشق دربها وتفرض نفسها بقوة ...ولن نهتم الآن بمعضلة الكم أو الكيف، فإن ذلك في اعتقادنا المتواضع يبدو مؤقتا، لأن الكم سيشكل منضدة قوية ثرية للحسم في نهاية الأمر، وسيسمح بظهور إنتاج نوعي مميز، فضلا عن كونه شهادات غنية على ملامح العصر من زوايا عديدة وخلفيات متنوعة ثقافيا واجتماعيا، وهي شهادات ووثائق معتبرة في نهاية المطاف...ولن نهتم كما جرت العادة بتسليط الضوء على ماله علاقة بالغثاثات انسجاما مع ما يمليه المشهد، والخوض في الشكل والجوهر، وتلك هي الحقيقة الواقعية التي تمليها ثقافة الاستهلاك... ومن زاوية أخرى لم يعد ثمة الحديث ممكنا اليوم عن كون النقد العربي واهن، أو القول بأنه خافت، في ظل التقدم المعرفي الهائل، بل أصبح مؤثرا في تحولات المشهد الإبداعي والثقافي بشكل عام، من خلال التصويب والتقييم وطرح الاشكاليات والتوضيح...والتغيير والبناء الفاعل وبرصد فرشاة جمال متابعة نحو الارتقاء والسمو والتنقيح والتجدد والحياة...
كما تجدرُ الإشارةُ إلى أن محنة الكاتب العربي اليوم هي أنهُ مُطالب بتطوير تقنيته وموضوعه أكثر من أي وقت مضى، إنه مزاحمٌ من الكتاب الغربيين في الأصل وفي الترجمة التي تخطت كثيرا مرحلة الاقتباس والتشويه والتعريب...الوعي بالزمان والمكان والحدث لايكفي، الشرط الإنساني المطلوب في أي عمل أدبي، صحيح أنه من مهمة الكاتب، لكننا سنوافقه أو لانوافقه على ما يختاره لنا، ملزمٌ عليه أن يخترعَ شرطهُ الأدبي، أن يتجاوز المسافات، واللحظات والأحداث التي من كثرة ما اعتدناها أفقدتنا الإحساس بها، لكن هذا لايعني أننا نلزمه بأن يتنبأ لنا بانفجار الأحداث كما لو كان تنبؤه قنبلة موقوتة، يكفيه أن يستشف بوادر الكارثة...لانطالبه بأن يصطنعَ لنا ما لايتصلُ بالواقع الإنساني. لابد من وجود مدرَك ذاتيا وموضوعيا...فالعدم لاينتج إلا العدم كما يقولُ "سبينوزا"...
     في هذا السياق وأنا أتابع المشهد هنا وهناك، لعلي أظفر أو أقَعُ على قطعة أدبية وفنية تشق عباءة المألوف، وتصطنعُ في اندهاشا وتشويقا وجمالا وروعة...أوتصيبني في مقتل، إما بخرق المألوف أوبخيال جامح أو امتلاك رؤية فكرية أوفلسفية للواقع والعالم وغير منتظرة...، حتى وجدتني أمام نصوص معتبرة ومتميزة لكتاب عرب ومغاربة، وأنا أعرفُ الكثير منهم، وأدركُ براعتهم واشتغالهم بشيء من الأناة والجدة والتميز والتجديد الواعي والتمكن من التقنيات والآليات...، وبالمقابل وجدتُ من يواكبُ بعضها ويحاصرها بأسئلة تحاور مسألة التجنيس السردي، وإن كانت بعضها تُعلن منذ البداية بكونها قصص قصيرة تنطلق من الخيال...لكنها لا تولي أهمية لبناء الحكاية أوالحبكة والعقدة والحل. ووجدتُ من يعتبرها حالات سردية، تجتهد لتقولُ رؤية الكاتب تجاه العالم الذي يحيطُ به..وهي حالة داعبت تفكيري كثيرا من حالات شتى، ضمن مقولات وموضوعات وعبارات تتعالق فيما بينها، مما جعلني أتوقف واستدعي مثيلاتها...، وأنا أبحث وأجرب في مجال الإبداع القصصي والروائي، لكن بشيء من الأناة والدراسة والفحص والعمق، دون تجاوز أو تجني مع الحفاظ على قواعد التأصيل الإبداعي، وإن اتسم ذلك بشيء من المغامرة والتجريد والتجريب...، ذلك أن أحد الأساتذة الكبار في مجال النقد الروائي ذهب إلى أبعد من ذلك بقوله:" إن الكتاب العرب اليوم، وعلى الرغم من هذا الزخم الكمي في الكتابة الروائية، وكثرة الاحتفاء...وحجم ما نراه من حيث الانتاجات، إلا أننا لانكاد نظفر أو نعثر على كتابة أصيلة، تُضاهي ما ينتج في أمريكا اللاتينية على سبيل المثال... وعلى أن الإبداع لايمكن أن يتكامل إلا بعد أن يتخلص من أكبر قوة تشده إلى الخلف، وبشيء من التمرد أحيانا على ما هو جاهز، والتخلص من بعض الأعباء والقيود، وجعل المعطيات الحضارية الحديثة تمس الإنسان عالميا...فضلا عن الاقتباسات والترجمات والتي تصلُ أحيانا حد السرقات للأعمال الغربية، والذي اتضح بشكل جلي الآن إلا لماما، أمام التقدم التكنولوجي الهائل...، ثم أضاف: ويتضح أيضا بأن كتابنا العرب يفتقدون الجرأة والتخييل في كتاباتهم، علاوة على ضبابية امتلاكهم رؤية للعالم في المستوى الذي تمسنا به معظم الحضارات الغربية الحديثة، وهو إجراءٌ في غاية الأهمية...ومن لايعيه أو يمتلكهُ أويضعهُ في الحسبان لا يُعد مبدعا، فهنا قد تتشكل الإضافاتُ أحيانا...وواصلتُ المغامرَةَ فاستدعى مني ذلك أن أبحث في عبارة " رؤية للعالم" أو كما يعبر عنه بمفهوم "رؤيا للعالم" بعدما  أن استلهم مني المفهوم أن أصلَ إلى ما يمكن أن يقع ويحدث فيما يشبه بتداعي المعاني، ووجدتُ بأن جُل المواقف والآراء تكادُ تُجمعُ بأنه أصبح من اللازم اللازب جدا اليوم، بل صار من البديهيات أن يمتلك كل مفكر أو مثقف أو مبدع أصيل، نظرة شاملة إلى واقعه، وبيئته ومجتمعه وعلاقاته الداخلية، وحركية تطوره، ومنطلقاته الايديولوجية، ونظرته الفلسفية ورؤيته الفكرية والمستقبلية، وأن يمتلك رؤيته من خلال ذلك العالم...وهذا سواء كان مرتبطا بحزب سياسي معين، أو جماعة فكرية لاتربط بينهما مبادئ أوقيم أيديولوجية، أوتيارات ونزعات فلسفية وسياسية  أو مواقف محددة...
ويشكل مفهوم الرؤية للعالم الينبوع والأساس والمرتكز المتجذر للكثير من المفكرين والروائيين والمبدعين والكتاب، وهو مفهوم ليس من إبداع أحد، على الرغم من ربطه ببعض رواد النزعة البنيوية ولا من إبداع الفكر المادي الجدلي، كما رأى البعض، وقد كان استخداما يتسم بالعمومية...لكن الفضل في استعماله استعمالا دقيقا حسب بعض المنظرين مثل "كولدمان"، حتى أصبح جهازا للعمل في الدرجة الأولى، يرجعُ إلى"*ج.لوكاتش"حيث تبناه كمفهوم في العديد من الروايات...وقد استلهم منها "*غولدمان" بعض مكونات منهجه...وقد صار لهذا المفهوم مركزية أساسية في مقاربة وتحليل الأعمال الفلسفية الهامة والأدبية وبخاصة الروائية...
إن الرؤيا تتدخل في بناء النص الأدبي من خلال الموقع الذي يرتضيه الأديب لنفسه، والرؤيا التي يرغب في التعبير عنها. وقد يعبر الروائي في تجربته الفنية عن رؤيا شاملة أو جزئية، ولكن ليس من المحتم أن يفعل ذلك لتباين الروائيين في الزاد الفكري وفي التجربة الجمالية نفسها، ويتجلى اختلافهم في أن كلا منهم يتخذ موقعاً وراوياً أو رواة ليجسد رؤياه، وتحديد الموقع والراوي/ السارد أي تحديد بناء النص يتم انطلاقاً من الرؤيا...
من خلال ما تقدم نلاحظ أن مفهوم كل من الرؤيا، ورؤيا العالم، وعلى الرغم من وجود خلافات بسيطة حولها، إلا أنها تتفق جميعاً في كونها تعني رؤيا الإنسان ونظرته الشاملة للكون والطبيعة والحياة والمجتمع. وتختلف هذه الرؤيا من مكان إلى آخر، ومن مجتمع إلى آخر ومن إنسان إلى آخر.
 ومن جهة ثانية يمتلك المبدع ملكة النقد، وهي التي تحدد ماهيته، وتجعل منه مثقفا. لنقل إنه يمتلك رؤية نقدية للعالم، ولا يكفّ عن إعمال هذه الرؤية تجاه مختلف الأفكار والنصوص والطروحات. ولا يسمى المثقف مثقفا ما لم يصل المثقف إلى مرحلة النقد الذاتي، ونقد هذا النقد الذاتي نفسه، في عملية لا تنتهي، لأنه متى توقف النقد توقف العقل، هذا الأخير والذي هو المسؤولُ عن هذه الرؤى في الاستلهام عبر التأمل واستحضار التجارب والتاريخ، ومختلف الحالات عبر الاستنباط والاسقراء وهلم جرا... لأن “النقد”واستبصار الرؤى منهجٌ في التفكير والحياة.
إلا أن هذا النقد وهذه الرؤيا مرتبطة بالنقد وبالرؤيا الجماعية، وبظروفها المحددة زماناً ومكاناً، وبالمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان. وينعكس هذا الفهم النظري في الأدب عامة، وفي الرواية خاصة، إذ تمثل الرواية أيضاً رؤيا للكون والطبيعة والحياة من وجهة نظر مبدعها، رؤيا للعالم الذي تصوره أو تدعو إليه وهذا ما يفسر التباين والاختلاف بين الأعمال الروائية إذ تصدر كل رواية عن رؤيا خاصة بمؤلفها وتتأثر هذه الرؤيا للعالم .بموقع الكاتب في المجتمع وبفهمه للعالم وباعتقاده الذي يؤمن به، ولهذا تتعدى الرؤى...
ويرى "غارودي" أن المبدع لا يعيد تجسيد العالم، بل يخلق عالماً جديداً وواقعاً آخر له قوانين اصطناع جديدة، فالعمل الفني مدعو إلى عكس العالم بدرجة أقل من كونه مدعواً إلى اصطناع عالم آخر جديد.
 إن الانعكاس الواقعي ليس تقليداً بسيطاً للواقع ولكنه فعل خلاّق يقوم به المبدع. إن وسيلة التصوير هي وسيلة لبلوغ هدف تحقيق الوحدة في إطار التصوير الفني بين الواقع وموقف المبدع أو الروائي أوالكاتب الخلاق منه، على نحو يجعل القارئ يحس المتعة لمشاركته الفعالة فيه.
إن مفهوم التصوير يعني تصوير الواقع والإنسان والعالم الذي يعيش فيه من خلال رؤيا محددة لهذا العالم تصويراً فنياً، ولا يعني التصوير الانعكاس الآلي كما يحدث في المرآة. وبهذا يقوم التصوير بمهمة التعبير عن رؤيا العالم في العمل الفني الإبداعي، ونخص الرواية بالذكر وهي المفهوم الأخير الذي يحتاج إلى تحديد والذي تجتمع فيه العناصر السابقة جميعها أي الرؤيا والعالم والتصوير.
ويجسد الأدب كل جوانب الحياة الروحية للإنسان في تداخلها وترابطها الطبيعي، وعملية تشكيل الرؤيا الأدبية الفنية عملية معقدة، لا تقف عند الانتقاء لما قد يكونُ أيديولوجي مثلا، والتقييم والإدراك العقليين، فهي تتضمن أيضاً الحدس والخيال والانفعال والدوافع اللاشعورية. فكل كيان المبدع الروحي ينهمك في عملية الاصطناع، وخيال المبدع هو القوة الخلاقة التي ترتب المواد الأولية وتشكلها في كل موحد، وتعطيها الشكل الذي ينظم تيار الانطباعات المتباينة. ولا يؤكد الأديب رؤياه بالفكر وحده، وإنما بكل حواسه، فالتفكير المبدع، وفقاً لمعايير علم الجمال، لا ينفصل عن الإدراك الانفعالي. وليست الرؤيا الفنية شيئاً ذاتياً لا يرتبط إلا بالمواقف الشخصية للمبدع تجاه مواده وذوقه الشخصي، وإنما هناك أيضاً مقدمات موضوعية اجتماعية تحدد الرؤيا الفنية للواقع، وقد يوجد تناقض بين الصدق الفني، ووجهة نظر المبدع داخل الأعمال الأدبية، ويمكننا التفريق بين الرؤيا الفردية والرؤيا الاجتماعية فالأولى تبع للثانية، وقد تكون مطورة لها أو ناقدة. والرؤيا عند المبدع جزء من الوعي الجماعي للمجتمع والتاريخ، وهي محكومة به، ولا يمكنها التخلص منه، ولعل هذه الرؤيا المشتركة هي ما يربط بين الفنان المبدع والمتلقي، وفي حال انفصام الرؤيا الفردية عن الرؤيا الجماعية فإن التواصل بين المبدع
والمتلقي يصبح مهدوماً. والرؤيا "تجربة مع المستقبل من خلال الواقع عن طريق الذات المبدعة...، ومن علامات هذه التجربة الوعي، بمعنى أنها ينبغي أن تكون على دراية كافية، وعميقة لما هو ذاتي وموضوعي، وأن تكون على وعي تام بالقوانين، التي تحكم تطور الشخصية الفردية والقوانين التي تحكم تطور المجتمعات والعلاقات الإنسانية. ومن علاماتها أيضاً النضج الذي يحدده طول تجربة المبدع... والرؤيا تتجه إلى المستقبل من خلال الواقع. وكل رؤيا لا تتجاوز الواقع تظل رؤية محكومة بسيطرة الحواس، وتفقد دورها الأساسي في العطاء". فالرؤية هي المرجعية الأولى التي تتشكل منها الرؤيا للعالم...
تظل الرواية جنسا أدبيا يعبرُ عن البيئة التي ينتمي إليها، ويرتبط هذا الجنسُ ارتباطاً وثيقاً بالمجتمع، ويقوم بتصويره من خلال رؤيا محددة وشاملة، يتخذها الراوي تجاه الكون والحياة والمجتمع والعالم؛ وهي تعتمد على الخيال، لأن الخيال يستمد عناصره من الواقع. وهذا يعني أن الرواية ينبغي أن تكون معبرة عن البيئة أو المجتمع الذي ينتمي إليه الأديب، وهذا يفترض أصالة الرواية وما يجب أن تكون عليه الرواية في الواقع، لأن المصطلحات السابقة والتي تحدد الأسس التي تقوم عليها الرواية، وتنطلق في بنائها منها تجعل من كل رواية رواية أصيلة. وإذا كانت الرواية الغربية قد استطاعت أن تحقق هذا الشرط فإنها جاءت معبرة عن المجتمع الغربي وتطوراته، مثبتة بذلك أصالتها؛ فالسؤال الذي يطرح نفسه الآن: لمَ لمْ  تَستَطعْ هذه الرواية العربية فعل ذلك؟ إن الإجابة عن هذا السؤال في اعتقادنا المُتواضع  من شأنه أن يضعَ هذه الرواية على السكة والمسار الصحيح للتأصيل بدلَ التغريب...وهذا يحتاج إلى فحص ودراسة معمقة...



المراجع والمصادر المعتمدة
-لوكاتش، جورج، 1971- معنى الواقعية المعاصرة، تر: أمين العيوطي، دار المعارف، مصر.
-غولدمان، لوسيان، 1981- المنهجية في علم الاجتماع الأدبي، تر: مصطفى السباعي، ط1، دار الحداثة، بيروت.
-فتحي، إبراهيم، 1986- معجم المصطلحات الأدبية، المؤسسة العربية للناشرين المتحدين، صفاقس، تونس.
-فضل، صلاح، 1992- علم الأسلوب، مبادئه وإجراءاته، مؤسسة مختار دار عالم المعرفة، القاهرة.
-وهبة، مجدي- المهندس كامل، 1979- معجم المصطلحات العربية في اللغة والأدب، مكتبة لبنان، بيروت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق