الأحد، 21 أبريل 2019

حلْقُ الخاطىءِ المسدودُ ترجمة ب. حسيب شحادة جامعة هلسنكي



في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة، التي رواها خليل بن شاكر بن خليل مفرج  المفرجي (أبراهام بن يششكر بن أبراهام مرحيڤ همرحيڤي، ١٩٢٢-١٩٨٩، شاعر ومفسّر للتوراة، أصدر شرحا كاملا لها بالعبرية السامرية، حولون) بالعبرية على مسامع الأمين (بنياميم) صدقة (١٩٤٤- )، الذي بدوره نقّحها، اعتنى بأسلوبها ونشرها في الدورية السامرية أ. ب.- أخبار السامرة، عدد ١٢٤٢-١٢٤٣، ١٦ تموز ٢٠١٧، ص. ٦١-٦٤. هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها ــ إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.

بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، توزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين في الدراسات السامرية، في شتّى أرجاء العالم. هذه الدورية ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّريْن، الشقيقَين، الأمين وحسني (بنياميم ويفت)، نجْلي المرحوم راضي (رتسون) صدقة (٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).


”حبّ أجوف وكراهية جوفاء

بينما نحن الآن في عزّ أيّام عيدي الفسح والأسابيع، أتذكّر قصّة وددت سردها عليك منذ زمن ولم يتسنّ لي ذلك لانشغالي الشديد بدكّاني. حيث أقضي أحلى أيّامي  بعمل شاق، بخياطة خيام وأغطية سيّارات وملابس للسبت في ساعات النهار، ومن ناحية مخالفة بالمرّة أنخرط في ساعات المساء بنسخ التوراة.

وعلى الإنسان أن ينام بعض الساعات كلّ ليلة أيضا، لتجديد القِوى في استقبال النساء اللواتي تطرقن باب بيتي في ساعات الصباح المبكرة. إنّهنّ لا يأتين بأيّ رزق لي ولكنّي أقوم بالعمل لوجه الله، ذبح دجاجات من كلّ الأصناف والأحجام.

ما ابتغيت سرده عليك متعلّق بعادة متأصّلة فينا اليوم ومنذ أجيال كثيرة. لا جديدَ تحت الشمس، أصبت بقولك. لو كان كلّ السامريين على قلب واحد ورأي واحد لمتنا جميعًا من الملل والضجر. مثل هذه الحالة تحلو لأيّّام مجيء التاهب (العائد، مسيح السمرة) مجدِّدًا أيّام الرضوان. ولكن في الوقت الراهن تجد إن قلوب السامريين قد تكون مفعمة بالحب اتجاه الآخر وقد تكون مليئة بالكراهية. لا جديد تحت الشمس، كلّ شيء قديم. وهذا هو الفرق بين أيّام السخط التي فيها حجب الله وجهه وبين أيّام الرضوان التي كان فيها راضيا عنّا. طالما الأمر متعلّق بنا فإنّنا نسير على هدي القول ”يوم عسل يوم بصل“. إنّ الأيّام الجميلة الحقيقية ميراث المستقبل، الآخرة، ما بعد الموت.

إستمعت إلى هذه القصّة من أبي الذي عاش كباقي جميع السامريين أيّامًا عصيبة جدّا.  تعلم أنّ الخصومات والعداوات في الطائفة كانت قائمة، ولكن من الممكن تفهم ذلك، فقد كانوا يمضون كل أسبوع بصعوبة شديدة، بالقلّة والجوع. اختبروا أيّامًا عصيبة جدّا. لا غرابة في أنّهم في بعض الأحيان وقت الضيق الشديد اتّهموا أصحابهم وأفراد عائلتهم أو أفراد طائفتهم لهذا الوضع. وكان من الممكن فهمهم عند نشوب الخُلف في ما بينهم.

أمّا اليوم فإنّي أعجز عن فهم أصغر خصام أو تنازع. ما الداعي والموجب؟ أينقص الواحد شيء ما؟ هنالك بين ظهرانينا من يتفجّر من توافر الرضا و”الانبساط“ والآخرون لا ينقصهم شيء أيضا. إذن على ماذا يتخاصمون؟ وقد تندهش أن لـ ”سبت عماليق“ [سفر التثنية٢٥: ١٧-١٩] ضلعًا في هذا الأمر. كلّ واحد منّا يتصرّف ساعة الخصام وكأنّه يهوشع يحارب العماليق.

الفِرار إلى مدينة السلط

والآن دعنا نبدأ بالقصّة. يعود الحادث إلى قرن من الزمان تقريبًا حينما اندلعت خلافات في الرأي بين ابني الكاهن الأكبر خضر (فنحاس) بن إسحق الأكبرين من بين ستّة أولاده، بين البكر توفيق (متسليح) وشقيقه إبراهيم. لا أنوي التطرّق لسبب الخلاف ولكنّي أستطيع أن أقول فقط، بناء على ما سمعته من أبي، إنّ الباعث كان تافها. ولكن كما يقول المثل العربي ”شيخين بالبلد بعيشوش“ حتّى وإن كانا شقيقين. غضب الكاهن إبراهيم بن خضر غضبًا شديدا وتواقح على شقيقه البكر، حتّى ليس على وجهة نظره؛ وقال لأبي، يششكر بن أبراهام المعروف أكثر باسمه العربي شاكر بن خليل، ”ما رأيك في الذهاب معي إلى بلدة السلط في شرقي الأردن لنجرّب حظّنا هناك“؟  آونتها كان أبي شاكر أعزب وعاطلا عن العمل، فاستجاب للتوّ لاقتراح الكاهن إبراهيم. لم يراود أبي أيّ ريب في أنّ الكاهن إبراهيم سيجد الرزق الكافي لهما هناك. ذات صباح باكر وبدون إبلاغ أحد، قام الاثنان وغادرا نابلس ووصلا السلط بعد يومين. في ذلك الزمن، هذا المكان كان قرية كبيرة مليئة بالبدو الذين عند رؤيتهم الكاهن إبراهيم المعتمر قلنسوة حمراء، الممتلىء الجسم وصاحب مظهر يبعث على الهيبة واللطافة، أتوا لاستقباله وتسابقوا في التشرّف باستئجار مأوى له ولمعاونه والدي شاكر، كما عرّفه الكاهن أمام أهالي البلدة. كلّ ذلك بسبب سمعة كهنة السامريين الطيّبة في كل الشرق الأوسط بأنّهم قارئو بخت.

بعد انتهاء الاستقبال العادي طلب الاثنان، الكاهن ومعاونه الشروع بالعمل. ولكن في الأسابيع الأولى لم يتدفّق عليهما الزبائن طالبين دواءً روحانيًا لأمراضهم وعللهم، والقلائل الذين افتقروا إلى ذلك لم يملكوا سوى مال زهيد. معنى ذلك أنّه سُرعان ما أفلسا (جلسا على صُررهم المثقوبة) لدرجة عدم توفّر ما يكفي من المال لتأمين العودة إلى نابلس.

الجندي التركي البريء

وذات يوم بدا كل شيء فيه ميؤوس منه، استجاب الله لصلاة الكاهن ومعاونه. جندي تركي اقتحم الدار يتصبّب عرقًَا ويلهث طالبًا إنجاد الكاهن إبراهيم. قصّ عليهما سيرة حياته الصاخبة. تبيّن أنه من أفراد الكتيبة التركية في معسكر بجانب السلط.  تهكّم به الحظ التعيس بمرارة. حدث أنّ أحد أصحابه في الوحدة اشتكى أنّ بندقيته قد سُرقت في عزّ الليل (في ساعة متأخّرة من الليل) وأُلقيت التهمة على الجندي، فقادوه دون إبطاء إلى المعتقل غير آبهين بصيحاته وزعقاته بأن لا ضلع له في السرقة، ولم يُعثر على البندقية.

في اليوم التالي عُيّنت محاكمته، إلّا أنّه سبق وقام بعمل ما. بالرغم من أنّه تلقّى الضرب على أيدي السجّانين في المعتقل إلا أنّه تمكن من الهروب من خلال فجوة في الساج والحرس يغطّ في نوم بهدوء. اختبأ طوال الليل في مخبأ وفي الصباح الباكر أسرع إلى بيت الكاهن على أمل أن يحظى بالخلاص والنجاة.

تفحّص الكاهن إبراهيم تصرّف الجندي  وكلامَه مليًّا فصدّقه على الفور بأنّّه لا ضلع له في سرقة البندقية. طلب الكاهن منه الرجوع على جناح السرعة إلى مخبأه واعدًا إياه بإيجاد الحلّ بإذن الله حتّى اليوم التالي.

استدعى الكاهن ضابط الجيش التركي إليه فلبّى الدعوة بلا تأخير، وهو مفعم بحبّ الاستطلاع لمعرفة ماذا يريد الكاهن منه. قال له الكاهن بأنّه على علْم بمسألة المعتقل الفارّ، وبأنّه متأكّد من اعتقال الرجل الخطأ. أجابه الضابط التركي: ”إنّي أحبّ هذا الجندي جدّا ومستقبل زاهر ينتظره، أسفت جدا لسماع خبر السرقة. إذا استطاع الكاهن العثور على السارق الحقيقي، فسأدفع له من خيرة مالي كلّ ما يطلب. قل لي فقط ما عليّ فعله؟“

كعكة مرّة أكثر من اللزوم

أمر الكاهن إبراهيم الضابطَ باجتلاب جميع جنود الوحدة التي منها سُرقت البندقية إلى ساحة منزله. انشغل الكاهن ومعاونه بالتحضيرات إلى أن أقبل الجنود. ملأ الاثنان قِدرًا كبيرة من حاجيات ومخدّرات مختلفة وغريبة وخلطا الخليط فوق نار شديدة حتّى صار جبلة عجينية لا لون لها وطعمها فظيع.

في الأثناء، اصطفّ جنود الوحدة بأمر من الضابط التركي وبحسب إشارة متّفق عليها سلفًا خرج إليهم الكاهن مرتديًا عباءة ومعتمرًا قلنسوة حمراء ناسبت ذقنه الطويلة. سُمعت خشخشات في صفوف الجنود وشعّت هيبة من عيونهم. حمل الكاهن إبراهيم صينية كبيرة وعليها كعكات عجين صغيرة من الجبلة التي أعدّها مع أبي.

نظر الكاهن إبراهيم بغيظ شديد إلى الجنود وقال: ”واحد منكم سلب بندقية وأخفاها. إنّي أعرف من قام بذلك وهو جبان رعديد ولا يجرؤ على الاعتراف. هذه الكعكات الصغيرة ستكشفه. فليتناول كلّ واحد منكم كعيكة، يمضغها فيبلعها. السارق الذي سيبلع الكعيكة سيموت بأوجاع مروّعة حتى حلول المساء“. التقط الجنود، الواحد تلو الآخر كعيكته وبدأوا بالمضغ وعلامات الاشمئزاز مرتسمة على وجوههم. جندي واحد فقط، السارق، لم يقدر على ابتلاع الكعيكة. انسدّ حلقه وكحّاته الكثيرة شهدت على اثمه. اعترف حالًا بالسرقة ودلّ الضابط على المخبأ الذي أخفى فيه البندقية؛ اقتيد بلا تأخير إلى السجن وأطلق سراح السجين الفارّ وأُعيد إلى وحدته.

وفى الضابط بوعده ودفع بجود وسخاء وتنفّس الاثنان الصَّعَداء، وانتشر الخبر في كلّ النواحي وسُرعان ما كثرت زبائنهما، إلّا أنّ الخطط تبدّلت. بعد ذلك بأسبوع وصل رسول من طرف الكاهن توفيق البكر، شقيق الكاهن إبراهيم وبيده رسالة. والرسالة تنبض بالأشواق والحنين، وفيها تأنيب وأمر للشقيق الأصغر منه إبراهيم بالرجوع في الحال إلى نابلس. وكان الكاهن إبراهيم مفعمًا بالحنين إلى نابلس ولم يطرأ على باله عدم الانصياع لأمر شقيقه الأكبر، أضف إلى ذلك أنّ غضبه قد خمد منذ زمن بعيد بل ونسي سبب الغضب . اصطحب ”مساعده“ وطفقا راجعين إلى نابلس، ولم يكونا بحاجة لدعوة أخرى. “

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق